من تعز إلى عدن..رِحلة البندقية التي أجبرت المُحتل على المُغادرة
الثلاثاء 14 أكتوبر ,2025 الساعة: 02:57 مساءً




تَعِزّ.. لُبُّ التضحية، ومَنارةُ الوعي، ومَنبعُ البركان، ومَصنع الغضب.. تاريخُها لا يشيخ، وروحُها لا تخمد.. هي عقلُ الثورةِ وضميرُها وذَاكرتُها، تنفست الوجع والحلم معًا، وحَاربت عن وطن بأكمله، وفي صفحاتِ النضالِ سيبقى اسمُها مُقترنًا بالكرامةِ والحرية والفداء. بَرزتْ في ستينياتِ القرنِ الفائتِ كقبلةٍ لثوارِ وفدائيي الجنوب، وتَحولت إلى ورشةٍ مَفتوحةٍ لصناعةِ التغيير. كانتْ - ومَا تَزال - رُوحَ الثورةِ ومُختبرَها الأول، تَمازجَ فيها الفكرُ بالبندقية، والكلمةُ بالفعل، ومن أثيرِها دوَّتْ الكلمات التي زَلزلتْ الطغاة، ومنها انطلقتِ البنادق التي أجبرت المُحتل على المُغادرة.

لجوءٌ اضطراري

بِسقوطِ مَناطقِ اليمنِ الوسطى والغربيةِ بيدِ جحافلِ الفيدِ الإماميِّ المُتوكلِي، انكمشتِ الأماني، وتراجعتِ الأحلام، وصارتِ الغربةُ خيارَ الجميعِ المُرّ. رفعَ الأئمةُ السلاليون من بيتِ حميد الدين وتيرتَها، وضيَّقوا على الرعيةِ أيَّما تضييق، وأجبروهم على الرحيلِ والمُغادرة، في مشهدٍ مؤلمٍ تكرَّر بكثافةٍ طوالَ عهدِهم البائس، ولم يبقَ في القرى الخضراءِ سوى الشيوخِ، والأطفالِ، والنساءِ، يندبونَ حظَّهم العاثر، ويشكونَ لله ظلمَ الإمام، وجورَ العساكر، ويبكونَ فراقَ الأبِ، والابنِ، والأخِ، والزوج.

كان عدد سكانِ المملكةِ المُتوكليةِ بعد خروجِ الأتراكِ من اليمن لا يتجاوزُ السبعةَ ملايينَ نسمة، وقيل أقلُّ من ذلك. مئاتُ الآلافِ منهم قضَوا نحبَهم بفعلِ المجاعاتِ، والأمراضِ، والحروبِ التي لم تتوقف، ومليونٌ ومئتا ألفٍ منهم تفرَّقوا في أغلبِ بلدانِ الله، هروبًا من ذلك الجحيم؛ وهكذا تناقصَ سكانُ اليمن، ووصلَ عددُهم في أواخرِ أربعينياتِ القرنِ المُنصرم إلى حوالي ثلاثةِ ملايينَ نسمة! كانت أغلبُ بلدانِ الله محطَّ رحالٍ، ومهوى أفئدةٍ لأولئك الهاربين، وكانت مدينةُ عدن المحطةَ الأبرزَ لذلك اللجوءِ الاضطراري.

عدن هي الأقربَ جغرافيًّا ووجدانيًّا لتعز، نجدُها حاضرةً وبقوةٍ في مَاضيها، وفي تاريخِ أبناءِ الحُجريةِ بالذات، ومَوروثِهم المُثقلِ بالاغترابِ والمُعاناة. انقادتْ إليها خُطاهم بلا توقف، واستقبلتْهم بلا عراقيل، ككائنٍ آدميٍّ مُرحَّبٍ به. احتكُّوا بثقافتِها، وتأثَّروا بها، وأثَّروا فيها، وأسسوا في حواريها أنديتَهم الاجتماعيةَ القرويةَ، كنادي (الاتحاد الأغبري)، و(التعاون العريقي)، و(الاتحاد العبسي)، و(الاتحاد الذبحاني)، و(الاتحاد الشيباني)، و(الاتحاد الشوافي)، و(جمعية بني حماد)، و(جمعية التعاون للقبيطة واليوسفيين)، و(الاتحاد القدسي)، وغيرها الكثير.

شكَّل انتقالُ الثائرَين الأستاذِ أحمد محمد نعمان، والقاضي محمد محمود الزبيري، إلى تلك المدينةِ الحيَّة، مُنعطفًا هامًّا في تاريخِ الحركةِ الوطنية. استضافَهما القائمونَ على بعضِ تلك الأنديةِ أكثرَ من مرة، واستضافوا من لحقَ بهم من أحرارِ الشمال، لتُولَدَ خلالَ تلك الفترةِ فكرةُ تأسيسِ حزبٍ يلمُّ شتاتَهم جميعًا.

بدأتْ من عدن - ومن مدينةِ التواهي تَحديدًا - المُعارضةُ الفعليةُ لحُكمِ الإمامِ يحيى بن محمد حميد الدين، منتصفَ العامِ 1944م، وذلك بقيامِ (حزب الأحرار الدستوريين). وهي تسميةٌ متقدِّمةٌ في ذلك الوقتِ المُبكرِ من كفاحِ اليمنيين. نشرتْ صحيفةُ (فتاة الجزيرة) - التي دأبتْ على نشرِ الموضوعاتِ التي يكتبُها الأحرار - نبأَ إعلانِ قيامِه، وعلَّقتْ: «لقيتْ هذه الخطوةُ ترحيبًا وحماسًا وتأييدًا من المُستنيرين اليمنيين، من أبناءِ الشمالِ والجنوبِ على حدٍّ سواء».

كما أسَّس تجارُ تعز في تلك المدينةِ مَدارسَ وجمعياتٍ بالتعاونِ مع عددٍ من العلماءِ والمصلحين، فكانت مدرسةُ بَازرعة، وكليةُ بلقيس، ومعهدُ البيحاني، مناراتٍ للعلم، ومنها توجَّه أبناءُ أولئك التجارِ وغيرِهم إلى القاهرة لاستكمالِ تعليمِهم، وهناك، احتكُّوا بالحركاتِ القومية، وعادوا يحملونَ فكرَ التحررِ الوطني.

الاستقلال والوحدة

لم تكن ثَورة 23 يوليو 1952م المَصرية حَدثًا عَابرًا مَحدود التأثير؛ بل كانت نقطةَ تحوُّلٍ فارقةً في مسار النضال الوطني، جذبت إليها الأحرار العرب من المحيط إلى الخليج، وأحيت إذاعتها، إذاعة (صوت العرب)، الروحَ القوميةَ لديهم، وألهبت شعاراتُها حماسَهم، لتنتعش على وقعها ووقع خطابات الزعيم جمال عبدالناصر رغباتُ التحرر من الأنظمة الرجعية والاحتلال الأجنبي، وهو ما كان.

وفي نوفمبر 1955م، تشكّلت في عدن الجبهةُ الوطنيةُ المُتحدة، وذلك من عددٍ من الهيئات التعاونية والنقابية، والنوادي الرياضية الموجودة في ذات المدينة، بما في ذلك الاتحاد اليمني (كيان الأحرار الثالث). وكانت تدعو - كما أشار برنامجها - إلى تحقيق وحدة اليمن على أساس شعبي، بحيث تتخذ شكلَ جمهوريةٍ ديمقراطيةٍ مُستقلة.

وعلى ذات المَنوال، دعا المُؤتمرُ العمالي الذي تشكّل إثر إضرابات مارس 1957م إلى تحقيق الوحدة اليمنية على أنقاض الاستعمار والرجعية اليمنية، وحمل شعار: (وحدة - حرية - اشتراكية)، وهو شعار حزب البعث. وكامتدادٍ لذلك المُؤتمر، أتى حزب الشعب الاشتراكي برئاسة عبدالله عبدالمجيد الأصنج، وأشار هو الآخر في برنامجه إلى أنَّه يسعى إلى إقامة حكمٍ جمهوري ديمقراطي شعبي بعد التحرر من الاستعمار والإمامة والإقطاع.

حدّدت - تبعًا لذلك - ثورةُ سبتمبر منذ اللحظة الأولى لانطلاقها حقيقةَ توجهها الوطني كثورةٍ شاملةٍ لا تعترف بالحدود الشطرية، وعبّرت عن خطها الوطني المُعلن صبيحةَ الـ 26 من سبتمبر 1962م، كما جاء ضمن أهدافها الستة، أو في بيانها إلى الشعب اليمني، على اعتبار أنَّه شعبٌ واحدٌ يُؤمن بالله، وبأنَّه جزءٌ من الأمة العربية الواحدة.

عبّر الشعبُ اليمني حينها عن فرحته بذلك الحدث العظيم، وفي شوارع عدن خرجت الجماهيرُ مُحتفية، وبدأت طلائعُ المُتطوعين تتجه شمالًا، ليقوموا - وقبل أنْ ينتهي ذلك العام - بإعادة تنظيم أنفسهم في إطارٍ سياسيٍّ يُمثّل أبناء الجنوب أمام القيادة الشمالية، وسمّوا تنظيمهم بـ (هيئة تحرير الجنوب اليمني المُحتل).

وبازدياد العمليات العسكرية المُوجّهة ضد الجمهورية الوليدة، بدأ المَصريون يُفكرون جديًّا في إيجاد إطارٍ سياسيٍّ يلمُّ شتاتَ الجنوبيين المُتواجدين في الشمال، يستطيعون من خلاله تنظيم أنفسهم للقيام بعملياتٍ عسكريةٍ ضد الاحتلال. استغل القوميون العرب ذلك بصورةٍ ذكية؛ وبدأت الحركةُ التي كان يقودها في الجنوب فيصل عبداللطيف الشعبي، وفي الشمال مالك الإرياني، تروّج لأفكار الكفاح المسلح، وتعدّ العدّة لإنشاء تنظيمٍ منبثقٍ عن الحركة الأم، وأجرت اتصالاتها مع قياداتها في الخارج للاتصال بالزعيم جمال عبدالناصر للحصول منه على الضوء الأخضر.

جاء الضوءُ الأخضر، وتوجّه قحطان محمد الشعبي من القاهرة إلى صنعاء، وتمّ تعيينه مستشارًا للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب بدرجة وزير، وقد استطاع الأخير خلال فترةٍ وجيزةٍ أنْ ينال ثقةَ الجنوبيين. عقدوا أكثر من اجتماع، وكان أهمها ذلك الذي عُقد بدار السعادة 24 فبراير 1963م، وحضره أكثر من مئة ثائر جنوبي، ومن هؤلاء جميعًا تشكّلت النواةُ الأولى لحركة التحرر الجنوبية. اتفقوا على توحيد جميع القوى الوطنية في إطار جبهةٍ مُوحدة، واستقر الرأي على تسميتها باسم (جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، وبرز على صدر ميثاقها شعار: (من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية). وهكذا، وكما بدأ أحرارُ الشمال نضالَهم من عدن، بدأ أحرارُ الجنوب نضالَهم من صنعاء.

ساعة الصفر

حين زارت لجنةُ تقصِّي الحقائق المنبثقة عن لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة صنعاء 29 مايو 1963م، نظّم الجنوبيون مسيرةً حاشدةً تحرّكت من العرضي إلى دار الضيافة حيث تقيم اللجنة، وسلّموها مذكرةً تشرح أوضاعهم تحت حكم الاحتلال، وحدّدوا مَطالبهم بالاستقلال. توجهت المظاهرة بعد ذلك إلى منزل الرئيس عبدالله السلال، وسلّموه نسخةً من تلك المُذكرة، وطالبوه بدعم الكفاح المسلح، وفتح مكتبٍ للجبهة، وتعيين قحطان الشعبي رئيسًا لمصلحة أبناء الجنوب، حتى تكون له صفةٌ رسميةٌ وصلاحياتٌ قانونية.

وفي 5 يونيو 1963م، صدر بيان جنوبي تاريخي، وتمّ توزيعه في صنعاء باسم قطاعَي القبائل والجيش، تضمّن تصميم قطاع القبائل على الدخول في المعركة في جبهةٍ موحّدةٍ مع كل الطلائع والقوى الوطنية المُؤمنة بالتحرر الكامل، ورفض أسلوب المساومة وأنصاف الحلول. وكان من ضمن الموقعين عليه الثائر الشيخ راجح بن غالب لبوزة.

وفي منتصف ذات الشهر، عُقد في منزل القاضي عبدالرحمن الإرياني اجتماعٌ ضمّ عددًا من الشخصيات الوطنية، وقد شدّد الشماليون فيه على ضرورة فتح جبهةٍ في عمق الأراضي الجنوبية من أجل تخفيف الضغط على الثورة. وافق الجنوبيون على ذلك، وعقدوا في اليوم التالي اجتماعًا قرّروا فيه تشكيل لجنة اتصال مهمتها الإعداد والتهيئة للثورة، مكوّنة من 12 شخصًا: ستة ممثلين لحركة القوميين العرب، وستة ممثلين لتشكيل القبائل.

غالبية البيانات التي صدرت حينها عن التنظيمات السياسية الجنوبية كانت تعتبر اليمن إقليمًا واحدًا، شمالًا وجنوبًا، وجزءًا من الوطن العربي المُوحّد. وقد كانت تلك الشعارات تؤذي الإنجليز وحكومتهم الاتحادية، فأصدر الأخيرون في ذات الشهر قانونًا صارمًا موجّهًا لدعاتها، جاء نصه: «من يوافق أو يدفع الآخرين إلى التفكير بأنَّ اتحاد الجنوب العربي يُعتبر جزءًا من دولة أخرى، يتعرض لعقوبة السجن لمدة لا تزيد عن سبع سنوات، أو لغرامة لا تزيد عن خمسمائة جنيه إسترليني».

في الأسبوع الأول من يوليو 1963م، عُقد في قرية حارات، ناحية الأعبوس - تعز، اجتماعٌ تشاوريٌّ لعددٍ من أعضاء حركة القوميين العرب، حضره: قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف، وسلطان أحمد عمر، وعلي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وآخرون. وتم فيه الاتفاق على توسيع دائرة التحالفات الجنوبية على قاعدة الكفاح المسلح، وإضافة كلمة (القومية) لاسم الجبهة. وذكر سلطان أحمد عمر - أحد أولئك المجتمعين - أنَّ قيادة الحركة اتخذت في ذلك الاجتماع عدة خطواتٍ حَاسمة، أهمها الإعداد للثورة، واختيار جبال ردفان لتفجيرها؛ لأسبابٍ عدّها استراتيجية. وهذا يعني أنَّ ساعة الصفر حُدّدت مسبقًا، ومن هناك، من جبال الأعبوس.

توجّه بعد ذلك عددٌ من الثوار الجنوبيين إلى مدينة تعز، وشكّلوا قيادةً لتنظيم التعاون مع المخابرات المصرية للإعداد للثورة، وفتحوا مكتبًا لها، ونشروا الميثاق القومي، وبيان مارس كما أُقرّ، ولم يُغيّر فيه سوى اسم (جبهة التحرير) إلى (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل)، وتمّت إعادة نشرهما في صحيفة (الثورة) التي كانت تُصدر من ذات المدينة.

تبعًا لذلك، عُقد في مدينة تعز اجتماعٌ كبيرٌ ضمّ غالبية ثوار الجنوب الفاعلين 19 أغسطس 1963م، أخذت الجبهة فيه تسميتها الجديدة، وقد اندمجت فيها وتبنّت خيارها سبعة تنظيماتٍ سرّية، وهي: حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية في الجنوب المُحتل، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المُحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السرّي للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية. والتحقت بها ثلاثة تنظيماتٍ أخرى، وهي: منظمة الطلائع الثورية بعدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل.

عُقد اجتماع تعز المُوسّع بالتزامن مع عودة الشيخ راجح بن غالب لبوزة وأصحابه إلى ردفان، وأثناء مُرور الأخيرين بمدينة إب، التقاهم المقدم أحمد الكبسي، قائد اللواء، والذي كانت تربطه بلبوزة علاقاتٌ وثيقةٌ جمعتهم فيها أعمالهم القتالية في جبهة المحابشة. طلب الكبسي منه دراسة الأجواء في ردفان للقيام بالثورة، مؤكّدًا استعداده لدعمهم وتدريب كوادرهم.

صحيحٌ أنَّ يوم 14 أكتوبر 1963م لم يكن يومًا قد حُدّد مسبقًا بأنَّه يوم الثورة، إلا أنَّ تفجير الثورة كان قد تمّ الاتفاق عليه، وهذا ما أكّده المناضل ناصر السقاف، الذي كان حينها نائبًا لقحطان الشعبي، بقوله: «عاد راجح بن غالب لبوزة من الجبهة (يقصد جبهة الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر) ومعه مائة مقاتل، وقد سمع بقانون حكومة الاتحاد، وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين، أعلن أنَّه سيعود وسيقاوم إذا تطلب الأمر ذلك. أخذنا وعد لبوزة بعين الاعتبار، المهم عاد الرجال إلى ردفان، وطالبوهم بتسليم السلاح، فرفضوا، فنشب القتال».

في اليوم الثاني لاستشهاد الثائر لبوزة، 15 أكتوبر 1963م، قام المناضل صالح علي الغزالي بتحرير رسالة إلى المقدم الكبسي، أبلغه فيها نبأ استشهاد الشيخ لبوزة، وما تعرّضت له قبائل ردفان من اعتداءٍ بريطانيٍّ غاشم، وطلب منه إبلاغ قحطان الشعبي وقيادة الجمهورية في صنعاء بذلك.

إمكانيات ثوار ردفان كانت حينها ضئيلةً جدًّا، ولذات السبب، توجّهت مجموعةٌ منهم برئاسة القائد بليل راجح لبوزة إلى إب، وتعز، ثم صنعاء، طلبًا للدعم والمُساندة. وكان أول دعمٍ يتلقّونه عبارةً عن ذخائر وألغام، وقد تمّ نقلها على الأكتاف إلى مقر قيادتهم. وقد عمل بليل، بعد عودته من الشمال، على إكمال مهمة أبيه، ونجح في لمّ شمل القبائل المُتصارعة، بمساعدةٍ مائزةٍ من قبل بعض المشايخ. وهكذا، صار أبناء ردفان يدًا واحدةً في مُواجهة الإنجليز وأذنابهم.

عملية صلاح الدين

زار الرئيس جمال عبدالناصر اليمن 23 إبريل 1964م، وألقى من مدينة تعز خطابًا حماسيًّا عُدَّ نقطةَ تحوُّلٍ فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، وكان الشرارةَ التي أشعلت حربَ التحرير الشاملة. قال فيه: «على بريطانيا العجوز أنْ تأخذ عصاها وترحل». كانت تلك الكلمات بمثابة إعلان حربٍ على الاحتلال الغاشم، ورسالةَ دعمٍ غير مشروطة للثورة اليمنية في الشمال والجنوب، ورسّخت مكانةَ تعز كقلبٍ للمشروع العربي التحرري النابض.

بدأت بموجب ذلك الخطاب عمليةُ (صلاح الدين) الذائعةُ الصيت، وكانت تعز مَقرَّها ونقطةَ انطلاقها، ومنها شقّت قوافلُ الأسلحة والمُؤن طريقَها نحو جبهات القتال في الجنوب. وفي التاسع من يونيو 1964م، خرجت أولى الشحنات إلى جبهة ردفان، محمولةً على 127 جملاً وحمارًا، وتوالت القوافلُ تحمل العتادَ إلى ذات الجبهة التي أطلقت شرارةَ ثَورة الرابع عشر من أكتوبر، لتُلهب الجنوبَ كلَّه، وتُمهِّد لرحيل المُحتل.

كان المكتبُ العسكري للجبهة القومية في مدينة تعز هو العقلَ المُدبّر لتلك العمليات، أشرف على تسلُّم الأسلحة وتوزيعها بسرّيةٍ وتنظيمٍ دقيق، بالتنسيق مع شبكاتِ الدعم المحلية التي نسجت خيوطَها في الظل، لتكون اليدَ الخفيةَ التي تُغذّي الثورة وتُحصّنها. وكان أولُ الواصلين من العناصر القيادية لحركة القوميين العرب: علي أحمد ناصر السلامي، وطه أحمد مقبل، ثم محمد علي هيثم، وعبدالباري قاسم، وأبوبكر شفيق، وسالم ربيع علي، وعلي ناصر محمد، ثم محمد سعيد مصعبين، وناصر صدح، وغيرهم الكثير.

ارتدت مدينةُ تعز ثوبَ الثورة، وتحوّلت إلى قلبٍ نابضٍ بالحراك السياسي والعسكري، وغدت مسرحًا حيًّا لدعم مَعركة التحرير. فتح أبناؤها بيوتهم وقلوبهم لأولئك الأبطال وغيرهم، وفي منطقتَي صالة والحوبان، تم فتحُ معسكرين للتدريب، وإليهما توافد الفدائيون من جبهات الجنوب، يحملون في أعينهم شرارةَ العزم، وفي صدورهم وهجَ القضية.

كَانت تعز حضنًا دافئًا للمُقاتلين، استقبلتهم وهيأتهم لمعارك التحرير، وفي مَطلع عام 1964م، وصلت أولُ دفعةٍ من أولئك الفدائيين، تلتها في يوليو دفعةٌ ثانية، تسلّمها المكتبُ العسكري للجبهة القومية، وضمت نخبةً من المُناضلين الذين لم يُنصفهم التاريخ. 

تعلّم هؤلاء الأبطال من تعز معانيَ التضحية والفداء، من هواها العليل تنفّسوا عبقَ الحرية، ومن نداها العذب ارتشفوا ماءَ المحبة، ومن دمعها الغزير ذاقوا طعمَ الصبر، ومن طموحات أبنائها استشرفوا الغدَ المُشرق، وتحت شلالاتِ ضوئها المُنسكب صاغوا قرارَهم الأول، وفي طبيعتها الساحرة، ومَآثرها العريقة، تأمّلوا وجهَ اليمن البهيَّ النقيَّ، الخاليَ من ملوّثات الحضارة وأدران الحياة، وحملوا أرواحَهم على أكفّهم، وواجهوا الاحتلالَ وأذنابه بشجاعةٍ لا تلين.

كانت إذاعةُ تعز التي تأسست في يوليو 1964م، صوتَ ثورة الجنوب المُعبّر عن أهدافها. بدأت بثَّ برامجها من قصر الضيافة، قبل أنْ يُوضع حجرُ الأساس لمبناها الجديد في الحوبان، فيما تولّت الخبراتُ المصرية تدريبَ كادرها اليمني. وكان لصوتها وقعُ السيف في ساحة المَعركة؛ إذ تحوّلت إلى منبرٍ وطنيٍّ يَصدح بالبيانات والبلاغات والأناشيد الثورية، وينقل أخبارَ الكفاح المسلح، ويكشف أكاذيبَ الإعلام الإنجليزي. فتغلغلت الحماسةُ في الأرواح، وغدت مدينة تعز كلُّها كتيبةً إعلاميةً تُساند ثُوارَ الجنوب، وتُلهب القلوبَ بِنداء الحرية.

ولم يكن دعمُ تعز محصورًا في السلاح والكلمة، بل امتدّ ليشمل الروحَ والإنسان، فاحتضنت أبناءَ الجنوب الهاربين من بطش الاحتلال، وفتحت لهم أبوابَ البيوت ودفءَ القلوب، فاختلطت الدماء، وتوحّدت المواقف، وتماهت الأهداف، حتى أصبحت تعز أيقونةً للوحدة الوطنية، وملاذًا لكل مُناضل، مهما اختلفت رؤاه، ما دام يحمل في قلبه حُلم وهم الوطن الكبير.

كانت تعز نبضًا في قلب اليمن، وذَاكرةً في وجدانه، ومَهدًا لحكاياتِ البطولة التي لا تزال تُروى.. ظلّت رغم الصدمات، مخلصةً لرسالتها، وسقط أبناؤها دفاعًا عن مَبادئ الثورة والوحدة. منها وُلدت قصة التحرير، تلك القصة الخالدة التي قالت: إنَّ الجنوب يتألم كما الشمال، وأنَّ الوطن لا يشفى بنصف ثورة. وحين أُعلن الاستقلال 30 نوفمبر 1967م، كانت تعز قد سطّرت اسمَها في التاريخ بمدادٍ من نَارٍ ونُور.


Create Account



Log In Your Account