الأغنية التي أبكت أبوبكر سالم!
السبت 12 ديسمبر ,2020 الساعة: 10:45 مساءً

فجأةً ، وفي مساء الخميس 3 يوليو 2003 كان صوته على الهاتف من المُكلا:
سأكون غداً صباحاً في صنعاء!
قلت : خبر جميل يا أستاذ أبوبكر  
أضاف : هي ساعات فقط في صنعاء من أجل موعد الطائرة بعد أيام في المكلا التي كرّمتني جامعتها بالدكتوراه الفخرية
قلت مُرحّباً : أهلاً بك في وطنك وبين أهلك

في تلك اللحظة تساءلت مع نفسي محتاراً :
ساعات في صنعاء! ويوم جمعة أيضاً
كنتُ حائراً مفاجأً بالتوقيت الغريب وضيقه!
لكن الحيرة لم تأخذني طويلاً
فقد بدأت بالإتصال بالصديق عبدربه روضان كي يعد درعا ممتازاً باسم الفنان الكبير وينجزه خلال ساعات الليل!
ثم اتصلت بجمعٍ من الفنانين والصحفيين ووكلاء الوزارة للحضور الساعة العاشرة صباحاً لحضور التكريم في إحدى قاعات مبنى الوزارة
ثم تم الإعداد لحفل غداء في دار الحجر التاريخي في الضاحية الشمالية من المدينة
وأبلغت رئيس الوزارء عبدالقادر باجمال
وكذلك نائب الرئيس حينها عبدربه منصور هادي وتم ترتيب غداء ومقيلين لديهما!
وتم الترتيب لسيارات الضيافة لتكون في استقبال الفنان الكبير
سأعترف .. كانت ساعات صعبة وأنا أخطط وأتابع هذه الترتيبات على عجل وقُبَيل وصوله بساعات قليلة 

في التاسعة والنصف صباح اليوم التالي الجمعة كنتُ في صالة كبار الضيوف في مطار صنعاء لاستقبال أبوبكر سالم
وحين خرجنا من الصالة فضّلت أن نستقل سيارتي ولحقتنا سيارات الضيافة!
كنتُ رتّبت مع سكرتيري الفنان نشوان الحجري الذي جلس بجوار السائق أن يفتح أغنية ياطير ياضاوي التي أحبها جداً فور صعودنا إلى السيارة
ثم طلبت من نشوان غلاف الكاسيت الذي يحمل صورة قديمة بديعة للفنان وهو يلبس بدلةً أنيقةً بيضاء
قال متهللاً : شوف يا أستاذ خالد كيف كنت وسيماً وجميلاً!
قلتُ له : ياللأناقة والوسامة بالفعل!
قال : تلك أيام الشباب
قلت : ولكنك ماتزال أنيقاً ووسيماً
قال : كبِرنا والله .. هذا كله ديكور!

وصلنا مبنى الوزارة ودخلنا القاعة الممتلئة بحضورٍ نخبوي من فنانين وصحفيين وإداريين
وألقيت كلمة ترحيبية مرتجلة تذكرت خلالها بيتين للشاعر العربي الكبير سليمان العيسى:
مِنْ أيّ شبّابةٍ غنّى الإلهُ بها
سرقتَ صوتكَ قُلْ لي أيها الشادي
هتفتَ ياليل .. صار الليلُ حنجرةً
وذابَ آهاً على عُودٍ وعوّادِ

لم أتوقع ذلك التأثر الذي بدا على وجهه!
أمسك بالميكرفون وقال بصوته الرحيب المنثال جلالاً وتأثراً :
الصمتُ في حَرَمِ الجمالِ كلامُ!
ثم شكر الوزارة واحتفاءها به قبل أن يتسلّم درع التكريم الذي لم تبرد حرارة معدنه بعد!
في الطريق إلى دار الحجر قلتُ له:
يحبك الناس هنا ويتابعون أغانيك القديمة والجديدة
قال : صحيح ، ولكن بلا حقٍ فكري من أحد فلا أحد يستأذن مني!
وأضاف : بالنسبة لي المشكلة ليست في ذلك ولكنها في الكاسيت الرديء رخيص السعر أيضاً الذي يشوّه الأغنية 
قلتُ له : نحن بصدد إعداد لائحة ملزمة لكل المنتجين .. للأسف هذه مشكلة تعاني منها معظم دول العالم الثالث وترتبط بالمستوى الاقتصادي للشعب

وصلنا دار الحجر وكان في استقبالنا حوالي 50 شخصية بين فنانٍ وشاعر
وأمام شذروان المفرج وبينما نحن في انتظار الغداء عزف وغنى الفنان الكبير نجيب سعيد ثابت أغنية أبوبكر "ياورد ماحلى جمالك" 
ثم قمنا للغداء فسألته عن وجباته المفضلة!
قال : منعني طبيبي من اللحوم تماماً فأنا أفطر كوباً من الحليب مع قطعة خبز والغداء مجرد 5 ملاعق أرز أما العشاء فكوب حليب وتفاحة!

بعد الغداء ذكّرني بالموعد مع نائب الرئيس فطلبت منه أن نجلس في المفرج ولو ساعة فقال أنه لن يخزّن رغم حبه للقات لأن لديه موعد مع التلفزيون الثامنة مساءً ولا يريد للقات أن يؤثر عليه قبل المقابلة!

في الطريق إلى منزل النائب سألته مباشرةً .. من تسمع من الفنانين اليمنيين؟
قال : أسمع الجميع ..أسمع أيوب والمرشدي وعلي الآنسي ..
قلت : والحارثي ياراجل؟ قلتها باللهجة المصرية!
قال : بالنسبة لي ارتحت للآنسي لأن جملته طويلة تناسب امتدادات صوتي مثل أغنية ياليل هل أشكو.
  
وصلنا الرابعة عصراً إلى بيت نائب الرئيس ودخلنا الديوان .. وانتظرنا .. ولم يصل النائب إلاّ الرابعة والنصف
 استأذنت بالذهاب إلى بيتي
وعدتُ مصطحبا نشوان الذي شهد كل تفاصيل هذه الزيارة في يومها الأول والثاني من البداية للنهاية!

في اليوم التالي السبت ذهبتُ ظهراً إلى فندق تاج سبأ مصطحباً أبوبكر في سيارتي إلى منزل رئيس الوزراء عبدالقادر باجمّال رحمة الله عليه حيث أقام مأدبة غداء على شرف الفنان الكبير
فوجئنا في المقيل بحضور كثيف لفنانين وعازفين وإيقاعيين أتذكر منهم عارف جُمّن وعمر غلاب
بدأ عمر غلاب الجلسة بأغنية "السعيد الذي ماعرف الهوى" 
وأومأت إلى نشوان بأن يغني أغنية "وقف وودّع" لعلي الآنسي ، فقام إلى جوار عمر غلاب وأخذ عوده وغناها حتى هنهن معه أبوبكر سالم قائلاً : شكراً ياحبيب

كنتُ جالساً طوال الجلسة جوار أبوبكر سالم ومع أذان المغرب قام البعض للصلاة وتخفف المجلس من بعض رو

اده فوجدتها فرصةً لأقول مبتسماً وكأني أمزح :
أنا عاتبٌ عليك أستاذ أبوبكر!
ماذا حدث؟ تساءل أبوبكر
قلت : كنا معا بالأمس طوال اليوم وكنتَ لابساً بدلتك الأنيقة .. فماذا جرى حتى تذهب للمقابلة في التلفزيون بالعقال!
سكتَ قليلاً وقد فوجئ بالعتب!
ثم قال لي : أعدك أن أغني في المرة القادمة بالزي الحضرمي أو بالبدلة!
كان نشوان الحجري يستمع للحوار مأخوذاً مدهوشاً قبل أن أقول في محاولة للخروج من الموضوع :
هل تعرف يا أستاذ أبوبكر أن نشوان يغني المتنبي أيضاً!
فطلب أبوبكر من نشوان أن يغني المتنبي
فأمسك بالعود وغنَّى :
أنا لائمي إنْ كنتُ وقتَ اللوائمِ
عرفتُ بما بي بينَ تلك المعالمِ
ولكنني ممّا شُدِهْتُ متيّمٌ
كسالٍ ، وقلبي بائحٌ مثلُ كاتمِ

كان أبوبكر سعيداً بمايسمع .. أبوبكر الذي يحفظ آلاف القصائد من الشعر العربي ويتفنن في إلقائها
 أشار عبدالقادر باجمّال إلى عازف العود الفنان الكبير عارف جُمّن بالعزف
وعزف تقاسيم رائعة قبل أن يشير إليه أبوبكر سالم بعزف لحن أغنية "سر حبي فيك غامض" 
وبدأ أبوبكر بالغناء بطبقة قرار معجزة .. وغشِيَ المكانَ وقارٌ وجلالٌ مُجنّحَان وعندما وصل إلى مقطع " أنتِ أحلى اسم في قلبي ثلاثي الحروف" ويقصد بها حروف كلمة "يمن" تهدّج صوته فجأةً ونزلت دموعه تأثراً
أتذكر أن تلك الهنيهة غسلَتنا تماماً .. غسلت المكان والزمان بل طارت بنا ثم أعادتنا نقطر نقاءً وبهاءً مثل أطفالٍ وُلِدوا لتوّهم!
بعد ساعات غادر أبوبكر سالم صنعاء!
لكنه عاد محتفلاً ضمن فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004 
وتلك حكاية أخرى!

نقلا عن صفحة الكتاب بالفيسبوك


Create Account



Log In Your Account