الثلاثاء 20 يونيو ,2023 الساعة: 08:15 مساءً
رحلة تيه، ووجع تقطعها وأنت تبحث عن مرفأ لروحك، تواجه الأخطار، وتتذلل للكثير من الحيل لتوصلك إلى ما تراه جنة الخلد الأرضية، جنة أرضية كما تحكي لك، لا كما تراها أنت، ما زال الكثير من الرفقاء في طريق التيه منذ سنوات، لم يصلوا بعد إلى الجنة التي أخبروا عنها، في أعماق البحر سكنت أجساد، وأخرى قسي عليها برد الشتاء، وثالثة مزقت تيه الصحراء ما تبقي لها من قوة، لا أحد يحب أن يسمع صوت الأنين العابرين، أو حشرجة الراحلين من جواره إلى عالم آخر، الجميع يحاول أن يحافظ على موج رغبته الجامحة عالية رغبة في الوصول، ويعتني بحلمه الذي رسم تفاصيل ألوانه منذ زمن الحرب الملعونة التي دمرت حلم وطنه، يتذكر سهرت الليالي الطويلة، وهو يحكي لأسرته وأصدقائه كيف ستتغير حياته، أنفق الكثير من الغالي، وتكبد معاناة طويلة مع ان تعيش أسرته حياة آمنة.
مزقت الحرب اليمنيين كل ممزق، من كوريا بلاد الشمس المشرقة شرقا إلى البرازيل في قعر الجنوب الغربي للكرة الأرضية، ومن أستراليا في الطرف ناء قصي للكره للعالم، إلى كندا في تخوم الشمال الغربي، قصص وحكايات، وجع وألم، دموع وصراخ، رافقت اللاجئ، خلال سنوات طويلة عبرت به محطات عديدة، رحلة مثخنة بزمهرير شتاء بلاروسيا، ولهيب صيف صحراء النيجر، ووجع الانتظار علي شواطئ البحر المتوسط بانتظار لحظة العبور، تزيد عن الخمس أو الست سنوات من عمرك قضيتها وأنت ترقب لحظة الوصول إلى بغيتك، سنوات أجبرتك علي أن تتخذ من خوفك صديقا، ومن الغابة مسكنا، ومن بعض والحيوانات كالثعابين أنيسا في لياليك الموحشة، لحظات مرت كأنها الجحيم، كنت شاهد علي مواقف لم تتخيل يوما أنها تنتمي لأفعال الإنسان، نسيت معها لذة عشتها يوما، تتذكر لحظة أجبرتك علي وداع إجباري لصديق الطريق في أرض غريبة لا ملامح لها، ولا شواهد، تتركه في عريه أبدية لا رجعة منها، عشت قبلها لحظات تري رفيق دربك، يستسلم لمعاناة الرحلة، فيذبل ويضعف، ويرضي بالمغادرة، وتركك، دون أن يكتب وصية لأسرته، وأقسى من ذلك ما هذه الطريق صديق الغدر، الذي يراك بضاعة للتكسب، فيبيعك لآخر مقابل فارق سعر،، رحلة لا تنتهي كما تأمل، في بلد اللجوء ستشتعل نار الحنين، ولن تحد الجنة الموعودة، روحا تتمزق، كد لا ينتهي، تظل تخلع جلدك كالثعبان حتي تحد الجلد الذي يناسبك، مع كل خطوة تخطوها بعيدا عن وطنة، لن تجد انت انت، لا شيئ يعود كما كان، حتي انت لم تعد انت.
اللجوء ولادة عسرة، متأخرة في سن الأربعين أو الستين أو العشرين، حياة جديدة تبدأ بتعلم أبجدية اللغة، وتحسس وجوه الناس، ومعرفة تضاريس المجتمع، تلج إلى دائرة انتماء جديدة لعلها تقيك وجع التيه، وتخفف عنك اصفرار الشوق، وتأخذك رويدا نحو الدائرة الأضيق والأقرب للاندماج، فأنت اصبحت حالة قانونية جديدة ، يعقبة الاندماج السياسي الذي يبدأ بحصولك على الجنسية وشعورك بالمشاركة في الاختبار والمحاسبة، وهذا جوهر الاندماج الأبرز، تمنحك اللغة انتماء وظيفيا أو اجتماعيا لكنها لا تمنحنك اندماجا كاملا كجذور الوطن، اختيارك كجزء من شعب مختلف حق خاص للدولة الجديدة، تحكمه معايير متعددة بما فيها السياسي والقانوني والحقوقي والسلوكي، اجتياز اختبار الاندماج هو القرار الأخير الذي يظل معلقا وقابلا للمزايدة السياسية لكونك طارئا، حالة الطارئ تتحول أحيانا إلى مادة سائلة لاستثارة الهوية الشعبوي والاختلاف الثقافي، والمخاوف الاجتماعي، يتم هندستها، وتضخيمها، لتكون مادة مناسبة لإثارة المجتمع، فتجدهم يتصيدون أخطاء منفردة لبناء مواقف جمعي قد يصول حد الاستثمار السياسي، ينزلق الكثير نحو الإعلام المضلل، الذي يتخذ منك مادة للاستهلاك والإثارة، كالمهرب الذي اتخذك بصاعه للتكسب، يسقط كل اعتباراتك الشخصية، والأسرية، والدينية، ليحولك إلى متهم اجتماعي وثقافي، يبرز هذا الانحطاط السياسي يوميا، ولن تهدأ حتى تتغير النظرة "الإنسانية" النمطية للاجئ الفار الباحث عن الأمان، الى "نظرة امنية" خطر يحمل جينات قابلة للاشتعال.
الشعور بالغربة يلازمك في تفاصيل كثيرة، من انفجار ضوء الشمس الأرجواني، إلى دثار الليل القاتم، تتوالى تلك الصور مرتبط بالجذور أمام عينيك، تتحسس وجوه الماضي في الوجوه المارة، ضحكات أمك، مهاجر أبيك، صوت صبية القرية المتداخلة مع زقزقة العصافير، في تفاصيل الذكريات يرقد تاريخك الشفهي، يتم لم وأنت في تستمع أو تقرأ لأخبار الوجع القادم من جغرافيتك الوطنية، تندفع سريعا مع حركة الحياة إلى الاجتهاد والمشاركة في قضايا مجتمعك الأم الجديد، كواجب أخلاقي نحو المجتمع الجديد، بين الجد والحنين، تتغير الكثير من المفاهيم والقيم والأولويات في أعماقك، وأنت تراقب كل شيء من حولك، تشعر بحالة بصيرة لأشياء كثيرة، البعض ينكمش حول ذاته، ويغيب عن الحياة في ماكينة سوق العمل، والبعض يتمحور حول مجتمع خاص به، يحمل هويته ويعرف به، يطل علي العالم من خلاله، لم يعد الوطن سوى حلم للروح، وعند عودتك إليه تغرق في غربة جديدة، تدرك عمق التحولات الزمانية والسلوكية في المجتمع، تظل تفتش عن ذكريات ظلت تشدك اليها وسط كومة كبيرة من التغيرات الجديدة، لم يعد رفقاء زمانك احياء او قادرين على احياءها، فتصبح بين غربتين لا يملأ حياتك سوى انتظار الموت وقليل من الانجاز.
لا أحد ينكر جودة الأمان في المجتمع الجديد، قي مقابل تحدياته ومجاهدات يومية لتتكيف مع المجتمع الجديد، حالة الانتقال الشعوري، والمادي لها كلفتها، وثمنها الذي قد يكون في فقدان مركزك الوظيفي وهدفك الحياتي، تجبر أحيانا لتغيير مسار قاربك نحو اتجاه آخر فقط لأجل لقمة العيش، وعدم دخولك في دائرة الضغط النفسي والاجتماعي، تسعى أن تتفرغ لفهم حياة صغارك الجدد الذين يولدون معك، لكنهم أكثر تطويعا وتطورا، وتمردا على قوالبك، لنمط الحياة في بلد اللجوء وجه آخر لست ربان دفته، الكثير والكثير من خطاب السلوك وممارسات الأسرة بحاجة لوعي جديد في عالم مليء بالحواجز التي تحول بينك وبين أبنائك، تسمع منهم الكثير من الكلمات المعبرة أبرزها، هذا ليس كما تفهمه، تشعر باتساع الفجوة، وتبدأ تمايز رصيف الوقوف مع تكاثف الثقافة والقيم، والحياة اليومية.
عندما اتخذنا قرار الرحيل إلى المجتمع الجديد، لم نمنح أنفسنا من الوقت ما يكفي للاطلاع علي تفاصيل الحياة الجديدة، لم تقف علي شهادات أبنائها، من زيجموند بلوموند في "سوائله الشهيرة، ولا" المجتمع المنحط "لروس، و" الإنسان الرقمي "ل دنيال، و" المتهكم الليبرالي "ل ريتشارد، و" الوحشية "ل الشيل ، و" الحياة المكثفة ل ل تريستان، وغيرها من الشهادات التي تمنح بصيرة بما أنت قادم علية، وتهيئك نفسيا. للخوض في تجربة، ثرية ومعقدة، من الصعب اختزالها في جودة الحياة ومجانية التعليم والضمان الاجتماعي، هي أكبر من ذلك، تصور شامل للحياة، ومركزك الجديد فيه، وبناء علاقة جديد متميزة، بهويتك الراسخة التي تساهم تدفق الحياة في هذا المجتمع، دون انفصال بينك وبينه .
قال لي صديق عربي التقيت به مؤخرا في أمريكا، وتبادلنا أطراف الحديث، قال أكثر ما يؤرقني هو أن لدي ولدا وحيدا، وكل يوم يعود لي بأفكار جديدة من المدرسة، حتى أصبحت أخشى أن يطالب يوم بحقة في تغيير هويته الجنسية، نحن معه في حوار يومي، ومتابعة دقيقة لكل ما يتلقاه، في ظل موجه محمومة بدأت ويبدو أنها لن تنتهي.