هل تُخطط الإمامة لحكم اليمن فقط؟ (الحلقة الثانية)
الإثنين 22 أبريل ,2024 الساعة: 03:42 مساءً

ظل العلويون وأتباعُهم من عامة الناس متربصين بالخلافة الأموية حتى نهايتها، معتبرين الأمويين أعداءهم قبل الفرس والروم، لهذا تحالف العلويون مع العباسيين الذين كانوا يعارضون حكم بني أمية، وكان لهم بعض الحضور الاجتماعي بسبب فساد بعض ولاة الأمويين وجورهم، فاستغل العلويون هذه الثلمة، وبدأوا يرفعون شعاراتهم المخادعة في العدالة والمساواة التي انطلت على بعض الأتباع؛ لهذا رفع العباسيون شعار "الرضا من آل محمد"؛ لكن العباسيين كانوا على قدرٍ عالٍ من الدهاء السياسي، وعلى معرفة عميقة بنفسيات بني عمومتهم الذين انقلبوا عليهم مباشرة عقب القضاء على الأمويين، وتفردوا بمواصلة بناء الإمبراطورية العربية الإسلامية، باستثناء الخليفة المأمون الذين اتبع سياسة مغايرة، حيث أراد أن يقرّبَ العلويين، ليأمن شرورهم، فدخلت الدولة العباسية في نكباتٍ متتالية وتمردات وانقلابات دفع بموجب ذلك أثمانا باهظة، وعاد لسياسة آبائه وأسلافه العباسيين آخر حياته في التعامل بحزم مع العلويين الذين يريدون الجَمل بما حمل، ولا يقبلون بأي شريك أو متشارك، لا لشيء إلا لأنهم "أولاد رسول الله"..!
وفق خطة محكمة بين أبناء العم الأشرار توزعوا الأدوار فيما بينهم، في استراتيجية سياسية للقضاء على الإمبراطورية العباسية القائمة، متحالفين مع الفرس وغير الفرس لإسقاطها. قرروا الذهاب إلى أطراف الإمبراطورية القائمة، ذهبوا إلى الجيل والديلم "عراق العجم"، وإلى المغرب العربي، وإلى جبال اليمن القصيّة، معتصمين بصلابتها الجغرافية، ومتحالفين مع بعض القبائل التي آوتهم سواء في الجيل والديلم، أم المغرب، أم اليمن الذين انطلت عليهم خدعة "العاطفة الدينية"، وهم يخفون وراءها أنيابا سامة وأحقادًا دفينة.
تُفصح لنا مراسلاتُ الرسي من جبال اليمن الحصينة في صعدة إلى بني عمومته في الجيل والديلم والرس والحجاز عن مشروع سلالي عرقي يستعبد الناس، وذلك بمراسلتهم شعرا، مطالبًا إياهم بإمداده بالمقاتلين:
كذلك أنتم يا آلَ أحمد فانهضـُــــوا 
بجيشٍ كسيلٍ حدرته الجراشع
فما العز إلا الصَّبر في حَومة الوغى 
إذا برقت فيه السُّيوف اللوامع
هل الملكُ إلا العز والأمر والغنى 
وأفضلكم من هَذبته الطبـَــائع
بنيتُ لكم بيتًا من المجد سُمْكه 
دُوين الثريا فخرُه مُتتابع
ألم تعلموا أني أجودُ بمهجتي 
ومالي جميعًا دونكم وأدافع
فما أحدٌ يسعى لينعش عزكم 
سواي وهَذا عند ذي اللبِّ واقع
متهكما من اليمنِ واليمنيين، وسَاخرا منهم:
بني العم إني في بِلاد دنيَّةٍ   
قليل وداها، شرُّها مُتتابع
وليس به مالٌ يقوم ببعضها 
وساكنها عريانٌ غرثان جائع
فإن لم تكافوني بفعلي فتُحسِنُوا 
فلا يأتني منكم ـ هُديتم ـ قطائع
انظر: سيرة الإمام الهادي 302. وإلى هذا المعنى أشار المؤرخ الشماحي بقوله:
".. وإنه لمؤسس دولة، ومؤسس مذهب. ربط بينهما بقاعدة الإمامة الضيقة فأخطأ، وعلى الدولة والمذهب جنى". اليمن الإنسان والحضارة، الشماحي، 116.
هل انتهت الفكرة عند الرسي فقط؟
بالتأكيد لا. وكل أدبيات الأئمة بعد ذلك تشير إلى الاستراتيجية السياسية الكبرى في مشروعهم الكبير البعيد.
سار أبناء الهادي على ذات المنوال، وإن ظلوا في صراع كبير مع اليمنيين، حتى جاءت النسخة الثانية من يحيى حسين الرسي، متمثلة في الإمام الطاغية أحمد بن سليمان: 533 : 566هـ، معلنًا ذات الخطة، يقول مخاطبا بني عمومته السلاليين في اليمن وخارج اليمن:
قوموا جميعًا بني الزهراء وانتصروا 
مما أضَرَّ بكم من سَالف الزمن
وجَاهدوا في سَبيل الله وانتقموا 
للحق واستيقظوا من غمرة الوسن
إني نهضتُ للم الشَّمل شملكم 
وما لويتُ على أهلٍ ولا وطن
فإن تجيبوا أملِّكُكم بلا كذبٍ 
على الشَّريعة أرضَ الشَّام واليَمن
وأقتني لكم ما ينفعُكم ويحفظ 
العز من حِصنٍ ومن حُصُن
يا قوم إن تسمعوا مني أكُنْ لكم 
أصفى من الماء أو من خالص اللبن
انظر: سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، ص: 26.
مرة ثانية.. هل انتهى المشروع عند أحمد بن سليمان؟
أيضا لا.
يعلن السفاح الأكبر عبدالله بن حمزة، 583 : 614هـ، استراتيجيته الكبرى في الحكم، كما ذكرنا في الحلقة السابقة:
لا تحسبوا أنّ صنعاء جُلَّ مأربتي  
ولا ذمار إذن أشمتُّ كلَّ حسادي
واذكر إذا شئتَ تشجيني وتطربني  
كَرَّ الجيادِ على أبوابِ بغداد
مؤكدًا ذلك بالقول: "ولو لم يبق من عمر الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى نملك الأرض بين أقطارها على بني العباس، وعلى غيرهم من الناس، قَال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). الأنبياء:105. ولا يكون ذلك إلا من تلقاء اليَمن، وربك أعلم مَن صاحبه؛ وكل مُستحق يرجو أن يكون صَاحِبَ ذلك، ليُعزَّ دينَ الله، لا ليوسِّع في الدنيا.."
انظر: مجموع مكاتبات الإمَام عبدالله بن حمزة، تحقيق: عبدالسلام بن عباس الوجيه، ص: 402.
ولنضع ألف خط تحت عبارة "من تلقاء اليمن" التي كانوا يعتبرونها المنطلق الأساس للمشروع السلالي الأكبر، ولا يزالون.
لنتوقف هنا عند كتاب عصر الظهور، الدليل النظري للمشروع الإمامي الفارسي، بصرف النظر عن التجديفات والهرطقات التي فيه؛ لكنها ــ على أية حال ــ أشبه ما تكون بالخطط السياسية، وإن ألبسها الكرادلة لبوس الدين.
يقول كتاب عصر الظهور: "ثم يخرج ملك من صنعاء، اسمه حسن أو حسين، فيذهب بخروجه غمر الفتن، يظهر مباركا زاكيا، فيكشف بنوره الظلماء، ويُظهر به الحق بعد الخفاء". انظر عصر الظهور، ص: 119.
مضيفا: "أما دور اليمانيين المُمهدين في العراق، فقد ذكرت بعض الروايات أن اليماني يدخل العراق على إثر غزو السفياني له.. أما في منطقة الخليج فمن الطبيعي أن يكون الدور الأساسي فيها لليمانيين، مضافا إلى الحجاز.. بل لعل حكم اليمن والحجاز وبلاد الخليج يكون بعهدة قوات اليمانيين التابعة للمهدي عليه السلام". نفسه. 119.
ولنتوقف أمام المرسوم الأخطر هنا، فنقتطف الكلام بنصه: "ومع أن دور الإيرانيين في التمهيد للمهدي ــ عليه السلام ــ دور واسع وفعال، ولهم فضل السبق والتضحيات؛ حيث يبدأ أمر المهدي ــ عليه السلام ــ بحركتهم، إلى آخر ما ذكرته الأحاديث الشريفة، وسنذكره في دورهم في عصر الظهور، فما هو السبب في أن ثورة اليماني ورايته أهدى من ثورة الإيرانيين ورايتهم؟ يُحتمل أن يكونَ السبب في ذلك أن الأسلوب اليماني الذي يستعمله اليماني في قيادته السياسية وإدارة اليمن أصح وأقرب إلى النمط الإداري الإسلامي في بساطته وحسمه، بينما لا تخلو دولة الإيرانيين من تعقيد الروتين وشوائبه، فيرجع الفرق بين التجربتين إلى طبيعة البساطة والقبيلة في المجتمع اليماني، وطبيعة الوراثة الحضارية في المجتمع الإيراني. ويُحتمل أن تكونَ ثورة اليماني أهدى بسببِ سياسته الحاسمة مع جهازه التنفيذي.. ولكن المرجح أن يكون السبب الأساسي في أنّ ثورة اليماني أهدى أنها تحظى بشرف التوجيه المباشر من الإمام المهدي عليه السلام، وتكون جزءًا مباشرًا من خطة حركته، وأنّ اليماني يتشرف بلقائه وبأخذ توجيهه منه". نفسه، 120.
قبل الأخير.. الاتصال الإيراني ببني عمومته في اليمن عميق الجذور، وفي بعض محطات الدولة القاسمية تفاصيل مهمة، منها العلاقات الصفوية الإيرانية مع الإمامة القاسمية إبان حكم المهدي محمد بن المهدي أحمد صاحب المواهب 1097 ـ 1130هـ الذي أرسل وفدا برئاسة محمد حيدر آغا، حاملا هدايا كثيرة، منها السيوف والخيول والعقيق وبعض التحف اليَمَنِيَّة الثمينة إلى الشاه حسين بن سليمان الصفوي ت. 1135هـ. حين لقب الإمَام نفسه بالمهدي المنتظر، وبادله الشاه الصّفوي ذات الشعور؛ إذ أرسل له بعد ذلك وفدًا كبيرًا محملا بالهدايا النفيسة. وقبيل وصولهم إلى اليمن كان الإمَام المهدي قد أعد لهم استقبالا مهيبًا لم يعمله مع أحد قبلهم أو بعدهم، فأمر عماله بتزيين كل المدن التي يمر بها الوفد، ابتداء من ميناء المخا، وانتهاء بمدينة المواهب في ذمار، كما أمر كل عامل باستضافة الوفد حال مرورهم من ولايته. وحال استقبالهم صُفَّت الأجنادُ من المواهب إلى قريب ذمار، ثم صُفت بعد ذلك الخيل إلى ميدان الدار، وقَد فُرش جميعه بالمفارش الرومية، وعند رأس كل حصان عبد من العبيد حتى وصلوا إلى الديوان.. ثم استقبل الإمَام الوفد في وسط مهرجان كبير، كان قد أعده لهذه المناسبة، حضره أعيان الدَّولة وغيرهم، وألقيت فيه كلمات الترحيب وقصائد التهاني. وقَدْ أقامهم بالقرب منه في بستانه الخاص، وأنفق عليهم النفقات الواسعة طوال فترة إقامتهم التي استمرت أربعة أشهر. وعندما أعلنوا موعد الرحيل أتحفهم الإمَام بالهدايا الجزيلة التي منها: سبعون فرسًا من الخيل العتاق، ثم ألبسها جميع ما تحتاج إليه من العدة الفاخرة التي رق لبسها وراق، وغير ذلك مما يُقابل به الملوك من النفائس والذخائر والسيوف المحلاة بالذهب المسبوك.."إلخ. انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي. ص 359.
ويلفتُ المؤرخ والأكاديمي الدكتور محمد علي دبي الشّهاري انتباهنا إلى نقطةٍ مهمةٍ للغاية من بعض تصرف الإمام المهدي، المتمثل في هدم وتخريب قلعة ومسجد العامرية برداع بأن نزوته الطائفية المتصلبة قد ظهرت من أجل إرضاء الدولة الصفوية في إيران..! انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، 200.
أيضا.. فتنة الفقيه الصفوي يوسف العجمي، الوافد من بلاد فارس إلى صنعاء أثناء حكم الإمام المنصور الحسين بن القاسم 1139ــ 1161هـ، عمل مدرسا بالجامع الكبير، ونشر الاثني عشر، وحرض طلابه على الناس، وكان سببًا في نكبة ابن الأمير، ولن نطيل الحديث عنه هنا، فقصته مذكورة في كتب التاريخ.
نموذج آخر.. حين تولى الإمام محمد بن يحيى الحكم سنة 1307هـ وهو والد الإمام يحيى، هنأته الطائفة الشيعية في العراق بتولي الحكم وإمامة اليمن بقصيدة منها:

مُرْ وانْهَ فأنت اليوم ممتثل 
والأمر أمرك لا ما تأمر الدول
الدولة اليوم في أبناء فاطمة 
بشرى فقد رجعت أيامنا الأول
محمد اليوم قد أحيا بني حسن 
كأنهم قط ما ماتوا ولا قتلوا
سيوفكم لم تزل يا آل فاطمة 
منها نجيع الطلا المحمرّ ينهمل
الله أعلاكمو قدرًا وشرفكم 
وإنكم لهـداة الناس لو عقـلوا
هذا هو المشروع السلالي العرقي الكبير الذي تحلم به هذه السلالة أينما اتجهت. 
أرأيتم؟!!


Create Account



Log In Your Account