الخميس 31 يوليو ,2025 الساعة: 05:49 مساءً
في واحدة من أعنف لحظات الصدق الوطني، قال الزعيم عبد الفتاح إسماعيل:
"الطبقية آفة المجتمع اليمني، وهناك طبقية مناطقية ومذهبية شمالا وجنوبا.. المذهب الزيدي يمارس الطغيان على أبناء المذهب الشافعي.. وليس هناك من طبقي إلا الذي يقول أنا يمني متساو مع كل من يعيش على أرض اليمن في الحقوق والواجبات."
بهذه الكلمات، لم يفضح عبد الفتاح إسماعيل واقعا، بل قدم خريطة طريق لوطن لم يولد بعد. وطن تكسرت ملامحه على صخور الطائفية والمناطقية، وعلى جبال الامتياز الطبقي المتجذر في الثقافة والسياسة معا.
وعبد الفتاح إسماعيل لم يكن مجرد سياسي أو ثوري، بل كان مشروعا فكريا مؤسسا لدولة مدنية أرادها خالية من الامتيازات السلالية، والمذهبية، والقبلية، والمناطقية.
هو الذي نشأ في مجتمع يعاني من إرث طويل من الهيمنة الطائفية، إذ تُختزل الحقوق بالمذهب، وتُمنح الفرص بناءً على النسب أو الانتماء الجغرافي. جاء من بيئة شمالية جنوبية الهوى والهوية عمالية، مثقلة بهموم الكادحين، ونظر بعين التمرد لا على الاستعمار فقط، بل على البنية الاجتماعية التي أنتجت العجز والخنوع.
على ان مقولته الصادمة تلك لم تكن خطابا تعبويا مؤقتا، بل تلخيصا لرؤية سياسية شاملة قاد بها معركة بناء دولة في الجنوب اليمني، بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني. دولة حاولت لأول مرة في التاريخ اليمني أن تذيب الفوارق الطبقية، وتوزع الأرض على الفلاحين، وتفكك إرث التراتبية الطائفية، وتجعل من "المواطنة" هوية سياسية لا مجرد صفة قانونية.
ولقد عرف عبد الفتاح، بتجربته في عدن وتعز، أن الظلم ليس فقط ما يمارسه المستعمر، بل ما تمارسه السلطات المذهبية باسم الدين، والسلالات باسم القداسة، والأقاليم باسم الأفضلية الجغرافية. وفهم أن اليمن لن يستقر طالما بقي الشافعي مواطنا من الدرجة الثانية، وطالما ظل الانتماء الزيدي امتيازا سياسيا واجتماعيا لا يُمس.
ففي دولته التي حاول بناءها، لم يكن هناك "سيد" ولا "عبد"، لم يكن هناك "صعدة" أعلى من "تعز"، ولا "لحج" أقل من "ذمار". كانت الرؤية واضحة: إما أن نكون يمنيين متساوين، أو نموت في دوامات التاريخ.
واليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على مقولته، تعود "الآفة" كما سماها لتتغول من جديد. تُرفع شعارات الطائفة فوق شعار الوطن، وتُستعاد الامتيازات القديمة بلبوس حديث، وتُخاض الحروب لا من أجل الحرية، بل من أجل تثبيت ميزان طائفي ومناطقي مقلوب. وهنا تبدو كلمات عبد الفتاح وكأنها كتبت لهذا اليوم، لا لذلك الزمن.
فلم يكن عبد الفتاح ملاكا ولا معصوما. مارس السلطة، وخاض صراعاتها، وارتكب أخطاءها. لكن ظل ثابتا على يقين واحد: أن اليمني الحقيقي، هو من يؤمن أن لا فرق بين زيدي وشافعي، بين شمالي وجنوبي، بين ابن صنعاء وابن عدن. أن الوطنية تبدأ حين تقول: أنا يمني وكفى.
وفي ذكرى رحيله، نحن لا نبكي قائدا غاب، بل نستعيد سؤالا ما زال معلقا:
متى نجرؤ جميعا أن نكون يمنيين فقط؟