الخميس 28 أُغسطس ,2025 الساعة: 02:10 مساءً
في الذاكرةِ الشعبيّة اليمنيّة، عملتِ الأمهاتُ ما يُسمى العواشة... وهي قطعةٌ ذهب صغيرة على شكل مسمار، تُعلّق في أذن الطفل إذا فقدت الأسرة أبناءها مرارًا... أتذكرها متدلية ببهاء من أذن ياسر صالح عباد، صديق الطفولة اللحجي، ومهما كانت الأسرة ميسورة فثمنها، يجب أن تجمع من الصدقات عن رضى وقناعة وتطوع في الخير.
كانت تميمة بسيطة، رمزًا للحياة، محاولة بريئة لمقاومة الموت بعلامة ذهبية صغيرة، الوهم هنا كان نابعًا من قلب الأم، من خوفها الصادق ومن الأسرة، ومن عجزها أمام قسوة الزمن وعادياته.
لكن في حاضر اليمن، ولد وهم أشد قسوة وأخطر أثرًا: الإعاشة. ليست قطعة ذهب صغيرة تُعلّق في أذن طفل لينجو من الموت، بذلها الناس بسخاء، بل ملايين الدولارات تُعلّق في كشوفات فساد، احُتيل فيها على الناس وأموالهم واخذت دون وجه حق... قوائم طويلة تحمل أسماء لشخصيات لا تعيش في اليمن، وأخرى لا وجود لها أصلًا، لكنها تتقاضى مبالغ ضخمة تحت مسمى "إعاشة".
أي إعاشة هذه؟
هل هي إعاشة للمشردين تحت الخيام؟
هل هي إعاشة للأسر التي تقتات على نصف وجبة في اليوم؟
هل هي إعاشة للأرامل والأيتام الذين أرهقتهم الحرب؟ لا
إنها إعاشة وهمية، إطعام للفاسدين على حساب الجياع.
المفارقة عميقة وموجعة:
في الماضي، كانت العوّاشة وهمًا يحاول أن يحمي الحياة الفردية للطفل، أما اليوم، فـ الإعاشة وهم يسرق الحياة الجماعية لشعب بأكمله.
الأولى كانت تعبيرًا عن خوف الأمهات و رجائهن.. والثانية تعبيرًا عن جشع المتنفذين وفسادهم
لقد صُرفت مليارات على ما سُمّيت "إعاشة"، لكن الواقع أن ما من إعاشة حقيقية وُجدت، وما من فم جائع شُبع، بل تكدست الأموال في الخارج، في الحسابات البنكية والجيوب المنتفخة. وهكذا تحوّل الوهم إلى سياسة، وتحولت "الإعاشة" إلى وثائق موت بطيء لشعب حُرم من حقه في الحياة الكريمة.
إن التاريخ سيحكم بقسوة على من استنزفوا أموال بلد فقير تحت مسمى "الإعاشة"، كما يحكم اليوم بقدر من الحنين والتسامح على خرافة العواشة التي لم تكن سوى محاولة بسيطة لحماية الحياة.
لكن الفرق بين العوّاشة والإعاشة هو الفرق بين وهم بريء ولد من حب، ووهم قذر ولد من فساد.
وفي الأخير، لا يمكن للحياة أن تصان بتمائم الذهب، ولا بكشوفات ضرار وفساد. الحياة تُصان فقط حين يتحول المال العام إلى خبز ودواء وتعليم، لا إلى صفقات وامتيازات وتبذير.