الخميس 25 سبتمبر ,2025 الساعة: 10:02 صباحاً
التفاعلات الشعبية في جريمة اغتيال أيقونة تعز، افتهان المشهري، هي آخر ما تبقى من صحة هذه المحافظة المنهكة. كل صوت لمواطن تعزي يطالب بالقبض على القتلة وجميع المتورطين في ارتكاب جرائم القتل والنهب، يُرفع له القبعة وتوضع في جبينه قبلة.
لن يحمي تعز سوى الصوت المرتفع المطالب بإنفاذ القانون وتكريس سلطة الدولة والتخلص من عصابات الجريمة، حتى لو لُفّت بالزي العسكري. اليقظة التعزية مهمة، لكنها في المقابل يجب أن تكون في أعلى درجات جهوزيتها لتتصدى لمشاريع ضرب تعز، ومواجهة التوظيف السياسي القذر الذي يبرز عند كل جريمة.
الورم الذي تفاقم واستطال خلال السنوات الماضية داخل وحدات عسكرية وألوية وأجهزة أمنية، تتحمل مسؤوليته في المقام الأول قيادة السلطة المحلية وقيادة المحور العسكري وشرطة المحافظة، وفوقهم قيادة "الشرعية".
أما سياسيًا، فإن جميع الأحزاب بلا استثناء تتحمل المسؤولية الكاملة، باعتبارها الترويكا الحاكمة للمحافظة.
لا يمكنك أن تكون شريكًا في المغنم، بينما تتهرب من المسؤولية في المغرم ولم تشبع نهمك بعد بالشراكة!
الأحزاب السياسية الحاكمة في تعز تتوزع على جميع مفاصل السلطة المحلية: يقود المؤتمر الشعبي العام بأغلبية الوكلاء، السلطة المحلية بشراكة حزب الإصلاح والحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري وحتى السلفيين.
في المكتب التنفيذي، تكاد تتساوى جميع الأطراف في حصص الهيمنة، إن لم يتفوق بعضها على أخرى، وتحديدًا المؤتمر الشعبي وأحزاب الناصري والاشتراكي. في المقابل، يقود المحسوبون على حزب الإصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية بشراكة مختلفة الأوزان. هكذا فرضت وقائع الحرب المعادلة داخل المحافظة في مواجهة الوضع الاستثنائي الذي فرضه انقلاب مليشيا الحوثي.
المشكلة أن بعض القوى السياسية في المحافظة مغرمة بتأدية ألعاب اللهو والأكروبات في وقت سئم الناس من هذا الإدمان المميت.
بعض هذه الأحزاب لا زالت تعيش حقبة إدمان بالشعارات، وهي تجمع بين الأختين معًا: السلطة والمعارضة. هذا الوضع المشوه يجب معالجته، أو أن على الأحزاب التي تريد التبرؤ من كل ما يحدث في تعز أن تغادر السلطة. عند تحقيق ذلك، يمكنك أن تحمل الطرف المنفرد بالسلطة بكل الأوزار والخطايا والجرائم.
في الخطاب السياسي والإعلامي لبعض الأحزاب، توجه أصابع الاتهام لطرف سياسي بعينه تصل حد وصمه بالإرهاب، لكن هذه الأحزاب نفسها هي التي تركض خلفه دائمًا، تحالفت معه في تكتلات ووقعت معه اتفاقيات مشهودة ومستمرة حتى الآن!
إما أنك كحزب، ضالع في التحالف مع "إرهابي"، أو أنك تمارس الابتزاز السياسي، ليس لمنافسك، بل لمحافظة كاملة بناسها، تلبية لأطراف خارجية، تحافظ على إبقاء وضع الصراع مشتعلاً وضرب المحافظة من الداخل.
عودوا لإرشيف التحالفات والصراع السياسي في تعز خلال سنوات الحرب فقط، لتتأكدوا أننا أمام نخبة تمارس التضليل والخداع بحق قواعدها وبحق اليمنيين عمومًا.
الوضع لا يحتمل بقاء هذا الازدواج لأنه أصبح يمثل استخفافًا بتعز وعبئًا عليها يوازي عبء الحوثي وعداوته.
في التفاصيل، هناك مسؤولية أكبر تقع على القيادات العسكرية والأمنية. حين يكون شقيق قائد محور تعز متورطًا بجريمة قتل وجرائم تعدي على حرمات مواطنين، ويبدو عاجزًا أو متواطئًا حيال ضبط شقيقه، فإنه سيكون أعجز عن مواجهة ظاهرة الإفلات من العقاب داخل وحدات الجيش. الأمر نفسه ينطبق على قادة الألوية، ووحدات الأمن الخاص والعام!
ذلك يعني أننا أمام مسؤولين لا يستحقون مواقعهم، بل إنهم عبء حقيقي على الجيش والأجهزة الأخرى.
لا شك أن هناك ظروفًا موضوعية ساهمت في صناعة هذا الوضع المتأزم والقلِق، مثل تخلي الحكومة وقيادة "الشرعية" عن واجباتها تجاه تعز وعدم تلبية حاجتها على كل المستويات، لكن فساد العنصر البشري كان هو الكارثة الكبرى التي لطخت تضحيات أنبل أبناء تعز الذين قضوا في مواجهة مليشيا الحوثي وهم يفتدون المحافظة، ودمهم ينزف حتى اللحظة.
هناك ملاحظة مهمة جديرة بالتوقف والانتباه وطرح الأسئلة: فور اغتيال مديرة صندوق النظافة افتهان المشهري، ظهرت حملة منسقة ومترابطة، مسنودة بصفحات على الشبكات الاجتماعية، يبدو أنها أُنشئت خصيصًا للحدث!
إلى جانب ذلك، ظهرت محتويات مكتوبة بعناية لأسماء مستعارة، ومحتوى موجه معد باحترافية عبر منصات جديدة، وخطاب يثير النزعات القروية في تعز، مقابل تمجيد قيادات وجهات كانت والغة في دماء أبناء تعز حتى وقت قريب!
كما شارك في الزفة، ناشطون وكتاب، يبتلعون ألسنتهم حيال جرائم وانتهاكات مروعة تحدث في المناطق التي يقطنونها تحت قبضة مليشيا الحوثي، وآخرون لا يجروؤون على فتح أفواههم كما هو حاصل في مناطق أخرى ضمن مناطق "الشرعية"، وتسجل الجرائم ضد مجهول!
في المقابل، استخدم هؤلاء جميعًا كل الصيغ البلاغية للتعريض بتعز وجيشها ومقاومتها دون تحفظ، واستدعاء كل المواقف والثارات الأيدلوجية والمناطقية وحشدها في القضية!
يضاف إلى ذلك حملات موجهة من أجهزة إعلامية محسوبة على أطراف محددة داخل "الشرعية"، وجدت في ما حدث جنازة أخرجت فيها كل ما تخفيه وتبطنه تجاه تعز وليس تجاه حزب الإصلاح وحده.
نعرف أن أي جريمة صادمة للمجتمع في كل الدنيا، يحتشد الناس للتضامن والمطالبة بضبط الجناة ومعاقبتهم ومحاسبة المقصرين في القيام بواجباتهم، لكن الأمر في تعز بلغ حد المطالبة بتحريرها!
هذا الصوت لا يحضر في الخطاب مع الحوثي، وقد ارتكب مختلف الموبقات والجرائم المعروفة وغير المعروفة بصورة ممنهجة تمثل جزءًا من التكوين العقائدي للمليشيا، وهي أدعى للاحتشاد والدفع نحو تحرير صنعاء، وليس الانسحاب وتسليم مئات الكيلومترات تلبية لأوامر الكفيل الذي يضع عينه على تعز!
استنفرت أيضًا أبواق الانقلاب المليشياوي الإرهابي الحوثي المستمرة معه، وتلك التي ركلها بعد فراغه من قضاء وطره منها، كأن عدواتها لتعز جزءٌ من التكوين، وليس موقفًا سياسيًا متغيرًا!
تعز، هي المحافظة الوحيدة التي تحضر فيها الشراكة السياسية في كل التفاصيل، وتمثل فضاءً حرًا للتعبير والاحتجاج، في حين يتم مصادرة كل شيء لصالح خطاب وحيد وجماعة سياسية وعسكرية واحدة في بقية مناطق البلد الممزق!
ما هو مؤكد أننا أمام خليط من المؤامرة والفشل. مؤامرة وأجندة خارجية تنفذ بأدوات داخلية لا تفتأ أن تهدأ حتى تعود بأوجه مختلفة، وفشل إداري وسياسي واختلال أمني كبير مثل بيئة مناسبة لكل أشكال الاختراقات. مع ذلك، هذا سيقودنا إلى استنتاج مهم: المؤامرة التي تحاول أن تتسلل من الشقوق والنوافذ، هناك من يفتح لها دائمًا الأبواب، على رأسهم السلطة المحلية والقيادات العسكرية والأمنية الفاشلة، والعطب الإداري المزمن.
لقد استقرت جريمة اغتيال افتهان المشهري على يد عصابات الجريمة، ومن يقف خلفها، كرصاصة في قلب تعز. لم تكن الشهيدة اسمًا عابرًا على رأس إدارة صندوق حكومي، بل مثلت أملًا وحلمًا لتعز بالتعافي من الفساد وركل هذا العفن الذي تجذر أكثر في المحافظة.
خسارة امرأة قيادية، فذة، عظيمة ونادرة، كفؤة، بنزاهة وإخلاص الشهيدة افتهان المشهري، كانت ضربة موجعة لتعز. لكن اغتيالها كتعبير عن دناءة وانحطاط وتردي أخلاقي، علق الجرس من خطورة تراكم طبقات العفن الذي شغل زوايا وأركان السلطة.
لكأن افتهان التي طرزت لمساتها شوارعنا بحب واعتنت بها كأنها جزءٌ من حديقة منزلها، وبذرت الأفكار الخلاقة والأداء المغاير المسؤول، نذرت نفسها لتعز ولليمن عمومًا حية وشهيدة.
ها هي روحها تطل بأجنحة من علٍ، تلهم هذا الاحتجاج الشعبي النبيل الواعي بما يحاك لتعز لإنصاف تعز وإنصاف جميع الضحايا، وإنهاء حالة الإفلات من العقاب. القبض على جميع المطلوبين في كافة قضايا القتل والنهب، ومحاكمتهم وإنزال العقاب، وحده القادر على تحصين تعز من الداخل.
إنصافها هو إنصاف قبل كل شيء، لأفضل وأنبل شباب ورجال تعز الذين واجهوا مليشيا الإرهاب وافتدوا كرامة المحافظة بدمهم، ليروا غرسًا وليس أشواكًا!
---------
نقلا عن موقع بلقيس نت