"لا قلق" يا مهيب!
الأربعاء 28 سبتمبر ,2022 الساعة: 04:30 مساءً

ثمة أصدقاء يحزنك رحيلهم وثمة آخرون يكسرونك، ثم يكبرون بمحبة مع كل لحظة غياب وفقد.
"لا قلق" تتردد هذه الكلمة في مسامعي الآن كأنك تستيقظ من رقدتك الأبدية لتقولها بنفس الكيفية التي كنت تعزفها كأغنية شريدة للمواساة في ما يشبه التعويذة عند كل ملمة.
أقولها لنفسي الآن: "لا قلق" محاولا التعافي ثم أصرخ في وجه صورتك الباسمة التي تقفز في رأسي الآن بنصف سن مكسورة: لماذا رحلت يا صديقي مهيب؟
كنا اتفقنا أن ننجز بعض الأشياء والأفكار معًا، وعندما كنت في عدن، في طريقك إلى  القاهرة، قلت لي إنك سئمت ملاحقة الأوغاد هناك وأنت تحاول استخراج تصريح لمؤسستك الواعدة "أنسم".
مثلما حرموك منحتك المالية، حرموك أيضا توثيق جهدك ودأبك، وكنت قد خلقت كل شيء من الصفر، بينما هم يعتقدون أنهم من يمنحوك شهادة الميلاد!
حسنًا.. تذكرت الآن "أنسم" مشروعك الكبير الذي حرصت على إخراجه ليكون منصة خالصة للصحافة الإنسانية، الحقل المهني والعلمي الذي منحته اهتمامًا استثنائيًا، وكان يتجول في روحك.
مر وقت طويل يا مهيب منذ تحديث "أنسم" بآخر مادة صحفية بلمستك الفاتنة.
ما من روح محبة تكابد بعدك لإنتاج محتوى يجعلك تمسك بتلابيب القصة إلى النهاية.
لن نقرأ مجددا ذلك السرد البارع والالتقاطات العبقرية لأبطال قصصك وزوايا حياتهم وكفاحهم الصبور.
ثم من سيتكفل بعدك بالملاحقة الصحفية لعصابات الآثار، التي تسرق ما تبقى لنا من ذاكرة لتبيعه في  عواصم العالم، بذلك الدأب والشغف والبحث؟
لا يعرف كثيرون أنك لم تكتف بإضاءة جانب مهم من العمل الصحفي المهمل، في البلاد، بل حاولت سبره وتحويله إلى موضوع للدراسة العلمية لنيل شهادة الدكتوراه.
هل ذهب كل ذلك الجهد والتعب والمثابرة سدى يا "سديقي "؟
كنا اتفقنا أن نعود معًا إلى تونس، كما فعلنا العام الماضي، في طريق الإياب من القاهرة.
هذه المرة سأعود وحيدًا لأن أحدهم يبلغ مرتبة القاتل الطائش، أطاح بك بعيدًا بوحش موتوسيكل وحجز لك تذكرة عودة إجبارية إلى صنعاء، تذكرة عودة إلى "الغالية" الأم والوطن المكلوم والحزين.
 كان حظي سيئًا يا صديقي. كنت على مقربة من حشرجاتك المختنقة بالنزيف، وسدتك ذراعي، وجلًا، وأنت تومئ في ما يشبه استغاثة يائسة في إحدى غرف مستشفى مهمل. ليس هناك ما هو أقسى من لحظات كتلك، تدور بك الدنيا فاقدًا الحيلة، فتتمنى أن تمسخ إلى فقاعة.
كنت بدأت تعود، أظهرت قوتك على سرير العناية المركزة  تحاول النهوض وتتململ في فراشك رغم الغيبوبة، فهل خذلت محبيك وأصدقاءك وخذلت رفقة العودة؟
تخبرنا لعبة الموت أننا مجرد كائنات فائضة وهشة وأننا مجرد مؤدون عابرون على خشبة الحياة. الحياة برمتها كذبة مخاتلة ولئيمة، تمنحك الوهم بأنك كل شيء وفي طرفة عين تصبح لا شيء.
 منذ أن جمعتني بك الغربة في تونس، كنت صديقًا مختلفًا، ودودًا بأناقة، مخلصًا ونقيًا في كل ظروفك ولحظاتك وتحولاتك، وكنت بالنسبة لي أخًا، ورفيقًا دافئًا في ليالي التسكع الباردة.
أنا الآن ألملم أمتعتي للسفر.
أتفقد ما تبقى من متعلقات ضرورية استعدادًا لفصل أخير في تونس، البلد الذي تصورت يومًا أنه أنت.
لن أشتري هذه المرة الكثير من "الحلبة" كما أنني لن آخذ كمية كبيرة من الشاي، أما الأرز، فمن سيطبخه كما تفعل؟
لا أدري إذا ما كنت سأصل، وإذا وصلت فلست أدري ماذا سأقول لصديقنا الابهى والأجمل محمد الأسعدي. سيعاتبني لأنك لست موجودا وسيلح في طلبك كأنك تعتذر عن رفقة ضرورية صوب أرواحنا.
كتب فيما يشبه البكاء بالحبر في أحد منشوراته "يا مهيب لو تعرف حجم محبة الناس لك، وإن كانت طباعنا السيئة، المتراخية لا تمكننا من التعبير عن من نحب إلا بعد فوات الأوان".
ثم أردف بعبارة موجعة "أنت مسافر بالنسبة لي حتى نلتقي".
ستحاول الفنانة الرائعة والمحبة لليمن، مهر الهمامي الإتصال بك لتهنئتك بالعودة والعود، وربما برقت في رأسها ومضة عن أغنية يمنية جديدة يمكن تأديتها، لتشفي روحيكما المحبة للفن والجمال والدهشة.
أما صديقك الرائع، الأعلامي البارز ورفيق دراستك، التونسي الجميل الذي قلت لي يوما إنه شقيقك الآخر الذي ولد في ولاية الكاف، مازال يبكي. كيف يمكن تجفيف أحزاننا وأحزان طارق؟
أحس مدامعه الحرى بأصابعي وأنا أقرأ رسائله الثكلى، وأقول: من أين تأتي بكل هذا المحبة الغامرة يا "سديقي "وأنت هناك؟
في هذه اللحظة، أشعر كأن كتلة ملح تحشر في حلقي، وأسال ظلي: هل رحل مهيب حقًا؟
سأحتفظ بلذعة السلتة والفحسة اللذيذة التي كنت تطهوها بروحك، وسأجعل من نكهة الزربيان عطرًا بديلًا يدلنا عليك كلما ذبلت ذاكرتنا بك في ذلك البلد البارد.
تلك ذاكرة المطبخ، لكنها وليدة الروح الكريمة المحبة الشغوفة بما تصنع.

كنت ماهرًا وشغوفًا بكل شيء: بالصحافة، بقصص الناس، بالعزف والفن، بالطبخ، بالبحث العلمي والإعلام، وبالمحبة الخالصة لأنك ولدت منها. أتذكر الآن آخر أغنية عزفتها لأيوب طارش قبل سفري من تونس وكنا نرددها معًا رفقة حبيبنا الأسعدي: "ماقدري لا أدري ". كانت بصوت الفنانة مهر، الشجي المشبوب بالحزن، وبأوتارك الشقية.
هل نطيق صبرًا بعد كل هذا الوجع؟
 أسألني فأجيب:
"لا قلق" نحن مجرد أشباح، نعبر بين ضفتين، وها قد عبرت الضفة الأخرى وأنهيت رحلتك الأخيرة.
"لا قلق" لأنك هناك عند من يملك الأرواح واليقين.

 لقد انتهت الرحلة، ووصلت وجهتك، تبقى لنا بعضا من المشاهد الضرورية لنصل، سنؤديها وسيسدل الستار.

لترقد بسلام في دار السلام الأبدية. رحمة الله عليك يا "سديقي" مهيب زوى.. وعلينا أيضًا!
------
القاهرة -  7 سبتمبر
------
ستحل أربعينية فقيدالصحافة اليمنية المهيب، يوم الجمعة المقبل.


Create Account



Log In Your Account