الزبيري وفرقاء النضال الجمهوري
الخميس 26 سبتمبر ,2024 الساعة: 11:04 صباحاً

جاءت ثورة 26 سبتمبر 1962م لتفصل بين ماضٍ بكل أبعاده وتعثراته، وبين مُستقبل ينضح بالأمل، وتصدر الضباط الأحرار المدعومين من مصر العروبة، مصر الزعيم جمال عبدالناصر المشهد، وتحقق على يد هؤلاء الأبطال (البزغة) - كما كان يحلوا للإماميين أنْ يسمونهم - تحقق وعد القائد العراقي الرئيس الشهيد جمال جميل الذي قال قبل 14 عامًا من ذلك التاريخ في وجه قاتليه: «حَبّلناها وستلد».

في حكومة الثورة الأولى، عُين القاضي محمد محمود الزبيري بمنصبه السابق في حكومة 1948م الدستورية وزيرًا للمعارف، وعين أيضًا نائبًا لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الإعلام والتربية، ومن مقر إقامته في القاهرة رفض ذلك المنصب، ورفض أيضًا أنْ يعود إلى الداخل؛ لسببين رئيسيين هما: أنَّ اسم الأستاذ أحمد محمد النعمان لم يكن ضمن أعضاء تلك الحكومة، ولم يكن أيضًا ضمن قائمة اليمنيين المسموح لهم بالعودة، إلا أنَّ رفيق دربه تدخل وأقنعه بالعدول عن قراره؛ لأنَّ وجوده في الدخل، وفي ظل هكذا ظرف حرج أمرٌ في غاية الأهمية.
     
وهكذا عاد القاضي الزبيري إلى الوطن، عاد ليعيش فرحة ذلك الإنجاز العظيم، ويجني ثمرة نضاله الكبير، ويتجاوز جميع التناقضات، ويستنهض الذاتية اليمنية، وكلف لذات المهمة طلاب المدارس بالانتشار بين القبائل المجاورة للعاصمة صنعاء، وتوعية أبنائها، وحثهم على التضامن مع النظام الجمهوري الذي فيه خلاصهم، وفيه حياتهم، وفيه مُستقبلهم، ويُمثل قبل هذا وذاك كرامتهم، إلا أنّ تلك الحملات التوعوية توقفت للأسف الشديد مٌبكرًا؛ بسبب الحاجة لمن يحمل السلاح دفاعًا عن اليمن الجديد.
     
كمرجعية صادقة، وأب للجميع، عمل القاضي الزبيري - أيضًا - على تقريب وجهات نظر القوى الجمهورية المُتصارعة، وقدم نصائحه الصادقة للثُوار المُتحمسين، وقام بكبح جماح شهوة التسلط ولذة الانتقام عند بعضهم، وحاول جاهدًا ومعه عدد كبير من الأحرار المُـخلصين أنْ يقودوا سفينة الجمهورية الوليدة إلى بر الأمان.

بالتزامن مع عودة القاضي الزبيري إلى وطنه، وفي نفس اليوم الذي وصل فيه الأمير الحسن بن الإمام يحيى إلى السعودية، قَادمًا من أمريكا، وصل الدكتور عبدالرحمن البيضاني إلى اليمن، قَادمًا من مصر 29 سبتمبر 1962م، حَاملًا معه حُزمة قَرارات سيادية جَعلته في الصَدارة، وحلَّ بموجبها نائبًا للعميد عبدالله السلال في رئاسة مجلس القيادة، ورئاسة مجلس الوزراء، إلى جانب شغله منصب وزارة الخارجية، وصار بعودته وعودة الأمير الحسن اللاعب الخارجي هو المُتحكم الرئيس بالمشهد، وأسهمت مِزاجية ذلك اللاعب في تعميق الفجوة بين الفرقاء.

بدأت بقدوم الدكتور عبدالرحمن البيضاني الخلافات الجمهورية - الجمهورية، واستمرت - للأسف الشديد - حتى بعد مُغادرته، وبتوصيف أدق إبعاده 18 يناير 1963م، وكان لحالة اللاوفاق الجمهوري والوفاق الإمامي - خِلال الثلاث السنوات الأولى من الحرب - أثره البارز في ترجيح كفة الأخيرين. 
     
حدثت بعد مُغادرة الدكتور البيضاني تغيرات لافتة في رأس الدولة القيادي، وتم تشكيل مجلس رئاسي مكون من 33 عضوًا 17 أبريل 1963، بِرئاسة عبدالله السلال الذي ترقى قبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر إلى رتبة مشير، وتشكيل حكومة ثانية (مجلس تنفيذي) برئاسة العقيد عبداللطيف ضيف الله.
     
كانت التدخلات المصرية حينها فَارضة حُضورها، وكان المستشار القانوني المصري يحضر جلسات مجلس الرئاسة المُوسع؛ الأمر الذي أشعر بعض أعضائه بخيبة الأمل، ولهذا السبب، ولعدم الانسجام بين هؤلاء وباقي الأعضاء؛ عقد المُستاؤون مؤتمر عمران الأول 2 سبتمبر 1963م، وتحول المجلس إلى ساحة صراع صغيرة، وهو الصراع الذي أدى إلى حل ذلك المجلس، والاكتفاء بمكتب سياسي مُكون من تسعة أعضاء 6 يناير 1964م، رأسه المشير السلال.
     
استفرد الرئيس السلال بمُساعدة المصريين بالحكم؛ الأمر الذي أفشل القيادة الجماعية الجديدة في أداء مهامها، وللاطلاع على تلك الإشكاليات عن قرب، زار الرئيس جمال عبدالناصر اليمن 23 أبريل 1964م، وعمل على رأب الصدع، وإقرار دستور رسمي للبلاد، وهو الدستور الذي تم بموجبه حل المكتب السياسي، والاكتفاء بنائب واحد لرئيس الجمهورية، شغره اللواء حسن العمري، كما تم تشكيل حكومة جديدة برئاسة اللواء حمود الجائفي، وتشكيل مجلس شورى برئاسة الأستاذ أحمد محمد نعمان.
      
ولم يكد ينتهي ذلك العام حتى قَدَّمَ عددٌ من قادة الدولة العليا، وعلى رأسهم القاضي الزبيري والأستاذ النعمان والقاضي عبدالرحمن الإرياني استقالتهم بشكل جماعي 2 ديسمبر 1964م، وانضم إليهم عددٌ من الوزراء والمسؤولين، وبدأت بذلك مرحلة قاتمة من الصراع، استفاد منها الجانب الإمامي أيما استفادة.
     
وجد هؤلاء الأحرار أنفسهم لا يتفقون مع القيادة الجمهورية الجديدة في نظرتها لسير الأمور، وقيادة الحرب، والسعي لتحقيق السلام، وكبح التدخلات الخارجية، وعلى الرغم من مضايقة السلطات الحاكمة لهم، إلا أنَّهم آثروا البقاء في الداخل.

وفي الوقت الذي استقر فيه الأستاذ النعمان والقاضي الإرياني في مدينة تعز، توجه القاضي الزبيري - بداية العام التالي - إلى برط، وهو الخروج الذي كان له ما بعده. وبعث للرئيس السلال برسالة قاسية جاء فيها: «رفضتم تكوين جيش دائم من القبائل المُجمهرة يردع المتمردين، ويمنع الحرب قبل وقوعها؛ وذلك لأنكم لا تثقون بالشعب ورجاله، ولا تريدون جيش شعبي من الأحرار القبائل خوفا على مناصبكم».
     
قام القاضي الزبيري بمخاطرة كبيرة ناتجة - كما أفاد الدكتور علي محمد زيد - عن قناعة راسخة لديه بأنَّ الجمهورية والسلام لن يتحققا إلا بكسب القبائل المُـحاربة إلى صفهما، وأنَّ البقاء في المدن، والاكتفاء بالعمل في أوساط السكان المُـؤيدين للجمهورية لن يكفي لتحقيق الانتصار.
     
وقد أثبتت التجربة - كما أشار ذات الباحث - أنَّ محاولة القاضي الزبيري النبيلة لإيقاف الحرب، وتحقيق السلام، كانت مُغامرة غير محسوبة، لم تأخذ في الاعتبار التغييرات التي طرأت على سوق الحرب، والإقبال عليه في ظل بطء التغييرات الاقتصادية والاجتماعية؛ بسبب الحرب الشرسة التي شُنّت على الجمهورية، وأضاف زيد: «ولا نملك سوى الانحناء أمام نُبل تلك المحاولة، وفداحة التضحية».     

صدر بعد يومين من توجه القاضي الزبيري إلى برط قرار جمهوري بتكليف اللواء حسن العمري بتشكيل وزارة جديدة 5 يناير 1965م، ولم يمض من الوقت الكثير حتى استشهد القاضي الزبيري 1 أبريل 1965م، وهي اللحظة التي مثلت نقطة تحول فارقة في مسار تلك الأحداث.

خمسة وعشرون عامًا وأكثر، قضاها القاضي الزبيري مُتنقلًا من منفى إلى آخر؛ جَعلته لا يرى في القبيلة إلا إيجابياتها، عدَّها جيش الثورة الـمُـنقذ، ولأجل تسليحها أختلف مع الرئيس عبدالله السلال، والمصريين، ليسقط في النهاية شهيدًا وهو رهن حماياتها، وبرصاص بعض أبنائها المُغرر بهم، وبجانبه رفيق دربه الأستاذ النعمان. 

انصاع - بعد ذلك - المُتحكمون بالقرار السيادي مُؤقتًا للتوجهات الإصلاحية التي تبناها الشهيد ورفاقه، وتم بعد 20 يومًا من تلك اللحظة المأساوية إعادة تشكيل مجلس رئاسي من خمسة أعضاء 20 أبريل 1965م، وبعد مرور 12 يومًا أخرى قدم اللواء حسن العمري والشيخ محمد علي عثمان استقالتهما من عضويته، وتم الإعلان عن الاكتفاء بنائبين للرئيس السلال، هما: القاضي الإرياني، والشيخ نعمان بن قائد.
     
وفي ذات اليوم الذي تم فيه تشكيل مجلس الرئاسة الخماسي، شُكلت حكومة سلام جديدة برئاسة الأستاذ أحمد محمد نعمان، وهي الحكومة التي تم إفشالها وإجبارها بعد مرور شهرين على الاستقالة، في حين كُلف حسن العمري الذي رُقي إلى رتبة فريق بتشكيل حكومة حرب بديلة.
      
إذا كان الأستاذ النعمان ورفاقه قد تبنوا مُعارضة التدخلات الخارجية من الداخل، فقد تبنى فريق آخر عرفوا حينها بـ (الجمهوريين المنشقين) المعارضة من الخارج، منهم من توجه إلى مدينة الطائف أغسطس 1965م، وشاركوا في مؤتمر رعته السعودية، قضى ميثاقه بقيام دولة اليمن الإسلامية، ومنهم من توجه إلى مدينتي بيروت وعدن، وأعلنوها صراحة بأنَّ القوات المصرية تحتل اليمن.
     
ولم ينقضِ ذلك الشهر حتى توجه الرئيس جمال عبدالناصر إلى جدة، مُطبعًا عَلاقته مع الملك فيصل بن عبدالعزيز، مُوقعًا معه اتفاقية قضت بترك أمر اليمن لاستفتاء يحدد فيه سكانه مصيرهم، بعد عقد مؤتمر تمهيدي في حرض الحدودية، ولم يكن حينها أمام فرقاء النضال الجمهوري في الداخل إلا أنْ يلتقوا من جديد، مُعلنين تشكيل مجلس رئاسي من سته أعضاء 4 سبتمبر 1965م.
     
تمهيدًا لتنفيذ اتفاقية جدة، أبعد المصريون الرئيس السلال إلى القاهرة، وصار الفريق العمري (أحد أعضاء المجلس الرئاسي، ورئيس الوزراء) في صدارة المشهد، في حين شكل الجمهوريون وفدهم التفاوضي لمؤتمر حرض من 25 عضوًا، وبرئاسة القاضي الإرياني، وقد بدأوا أولى جلساتهم مع الفريق الآخر في 23 نوفمبر 1965م، وقد أدى تمسكهم بالنظام الجمهوري إلى تأجيل ذلك المؤتمر إلى أجل غير مُسمى. 
     
عادت الخلافات مرة أخرى إلى صفوف أرباب النضال الجمهوري، وبوتيرة أشد، وقد انضم هذه المرة الفريق العمري للفريق المناوئ للتدخلات الخارجية، وحين صارح الأخير الشعب اليمني بجانب من الحقيقة، تضامن معه القاضي الإرياني، والأستاذ النعمان، والشيخ عثمان، وهددوا بتقديم استقالتهم من عضوية المجلس الجمهوري 12 يوليو 1966م.
     
بعد عشرة أشهر من إبعاده، أعاد المصريون الرئيس السلال إلى صَدارة المشهد؛ فما كان من غالبية المناوئين لتلك العودة المُستفزة إلا أنْ قَرروا الذهاب إلى القاهرة للقاء الرئيس جمال عبدالناصر 9 سبتمبر 1966م، مُخالفين لمقترح الأستاذ أحمد النعمان الذي دعا للجوء إلى الأمم المتحدة، والشكوى بعبدالناصر نفسه، وقد تعرضوا - نتيجة لتلك المُخالفة - للحبس والإذلال. 

وفي السجن الحربي بالقاهرة، تذكر الأستاذ النعمان لحظات استشهاد القاضي الزبيري أمامه، ورثاه قائلًا:
عامـان مُــذ غيـــل الرفيــق أمـامي
شُلَّت يـــد الجــاني الأثــيـم الرامي
ما دار في خلدي ولا في خـــاطري
أنــي أرى جـُـــثــــــمانه قُــدامــــي
ومُضــرجًا فــوق الثــــرى بــدمائه
في منـظرٍ أدمـــى فُــؤادي الـدامي
ذكــراه لا تنفــك بيــــن جــوارحي
تحـيـا معي في يقـظـتي ومـنـامي

كان الشهيد الزبيري بشهادة الأستاذ النُعمان أطهر مخلوق عرفته الأرض، لديه روح نقية، وقلب كبير، قال أنَّه سيهبه لوطنه؛ فكان له ما أراد. أليس هو القائل:
بَحَثتُ عن هِبَـــةٍ أَحبـُوكَ يـا وطني
فلم أجــــــد لك إلا قلبــــيَ الدامي
          
والقائل:
فـإن سلمت فــإني قد وهبت له
دقــائـق العــمر ماضـيــه وآتـيـه
وكنت أحـرص لو أني أمـوت له
وحـــدي فداءً ويبـقى كل أهليه
لكـنه أجـــــلٌ يــأتي لمـوعــــده
مــا كـل مـا تـتــمــناه تـلاقـــيه


Create Account



Log In Your Account