الأسس العقائدية للفكر الحوثي
الخميس 28 أُغسطس ,2025 الساعة: 06:59 مساءً


لاعتقادهم أنَّ الله مَيزهم عن الأمم الأخرى، وأنَّهم أقربُ الشعوب إليه، عمل اليهود على تأسيس أول دولة دينـية فـي التاريخ الإنسانـي، تَجسدَّت فـيها صُورة - الحَاكم المُطلق - مَبعُوث العناية الإلهـية، وهـي الصُورة ذاتها التـي عَمِدَ الإمامـيون على استنساخها، وما دولة الإمامة الزيدية (الهادوية) التـي أسسها الطامح يحـيى بن الحسين الرسـي فـي صعدة، إلا مثالًا ناجزًا لتلك الثيوقراطية.

الدين المُزيف
     
«التجارة بالأديان هـي التجارة الرائجة فـي المُجتمعات التـي ينتشـر فـيها الجهل، فإنْ أردت التحكم فـي جاهل - فعلـيك أنْ تُغلف كل باطل بغلاف دينـي»، مُقولة خالدة قالها - قبل ثمانـية قرون - الفـيلسوف العربـي الأكثر استنارة أبو الوليد محمد بن رشد، تنطبق أكثر ما تنطبق على كل دولة ثيوقراطية حكمت واستبدت باسم الدين، وأشـركت السماء فـي صـراعاتها، ولوثت الدين والسياسة معا.
     
دولة الإمامة الزّيدِيّة فـي اليمن واحدة من كل، إلا أنَّها الأسوأ والأطول عُمرًا، وجدت البيئة الخصبة التـي تتفق وتطلعاتها، وبمعنى أصح فَصَّلَها مُؤسسها الأول الطامح يحـيى بن الحسين لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا البلد المضـياف. 
     
العقلية الشـرقية تنقاد للعبودية بسهولة ويسـر، وتاريخ الإمامة الزّيدِيّة تجسيد لهذه الحقيقة لا أكثر، ولم تكن اليمن سوى مَحطة أخيرة للفاشلين من أدعيائها؛ لما وفرته من بيئة خصبة لذلك الانقياد. 
      
وسواء كان هؤلاء الأدعياء علويين أم غير ذلك، فمن الذي أعطاهم الحق بأنْ يكونوا أوصياء على الإسلام والمسلمين، وأنْ يتسيدوا على عباد الله، ويُخالفوا دينه الحنيف؟ ذلك الدين الذي نصـره العبيد، وخَذله السادة، وقام أول ما قام على المساواة والعدالة، وعلى إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأنْ لا فضل لعربـي على أعجمـي إلا بالتقوى.
     
يُجمع كثيرٌ من الباحثين على أنَّ الزّيدِيّة من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة، مُستثنيين جماعة منها تسمى (الجارودية)، نسبوها لأبـي الجارود زياد بن المنذر (ت: 150هـ، وقيل: 160)، أحد أصحاب الإمام زيد بن علـي المُتعصبين، وصفه المُحدثون بأنَّه كذاب وليس بثقة، وفـيه قال جعفر الصادق: «لعنه الله، فإنَّه أعمى القلب، أعمى البصيرة». وهـي - أي الجارودية - أقرب إلى غلو الاثنى عشـرية، والزيدي إذا تعصب يُسمى (جاروديًا).
     
وعلى خلاف ذلك الإجماع، قال الإمام الطاغـية عَبْدالله بن حمزة: «الزّيدِيّة هم الجارودية، ولا يعلم فـي الأئمة - علـيهم السلام - من بعد زيد من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك». تبرءوا من أبـي بكر وعمر رضـي الله عنهما، وزعموا أنَّ الإمامة مقصورة فـي أولاد الحسن والحسين، وأوجبوا نُصـرة من خرج منهم طالبًا الإمامة، مُستدلين بحديث ضعيف نُسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فـيه: «من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه، أكبه الله على وجهه فـي النار».
     
جعلوا الإمامة أصلًا من أصول الدين؛ بل من أكبر مسائله، وقالوا: «إنَّها فـي الإمام علـي، فـي النص الجلـي»، ومن خالفهم حكموا علـيه بالضلال والزيغ، وتبرءوا منه، واستحلوا حرمته، وامتنعوا عن الصلاة خلفه، حتى وإنْ وافقهم فـي غير ذلك من المسائل. وقد انتقدهم الإمام يحـيى بن حمزة (ت: 749هـ) بقوله: «ليس أحد من فرق الزّيدِيّة أطول لسانًا، ولا أكثر تصـريحًا بالسوء فـي حق الصحابة من هذه الفرقة».
     
زيد بن علـي كان يُجل ويرضـي على الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبــي صلى الله عليه وسلم، وحـينما سأله أنصاره عن رأيه فـي الشيخين أجاز خلافتهما، وذكرهما بخير، انفضوا حـينذاك عنه، وفسخوا بيعته، فخاطبهم بقوله: «اذهبوا فانتم الرافضة». ومن هذا المنطلق، فإنَّ الجاروديين ومن بعدهم الهادويين ليسوا زيدية؛ لأنَّهم لم يعترفوا أصلًا بخلافة أبـي بكر وعُمر، ولا يجلوهما.  
     
انحرف الطامح يحـيى بن الحسين (ت: 298هـ) كثيرًا عن المذهب الزيدي، وتبنى النظرية الجارودية فـي الإمامة، لا تقليدًا لأبـي الجارود، ولكن توافقًا معه فـي الأصول العامة. أصل - هو الآخر - لنظرية الاصطفاء الإلهـي، وجعل الإمامة موازية للتوحـيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصـرها بشقيها السياسـي والدينـي فـي البطنيين، وجعل لها 14 شرطًا مُلزمًا. 
     
وهو - أي يحـيى بن الحسين - كما حَرَّم الاجتهاد فـي المسائل الأصولية، ومنها الإمامة؛ لأنَّها شـرعية، ولا مجال فـيها للدليل العقلـي، أجازه فـي المسائل الأخرى، وعلى وجه الخصوص جزئية الخروج على الظلمة، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله لإقامة دولته الدينـية، على اعتبار أنَّ حُكام الدولة العباسـية (بنـي عمومته) ظلمة، وكل حاكم ليس من البطنيين ظالم، واجب الخروج علـيه. 
     
لغَّم الطامح يحـيى مذهبه العنصـري بعدد من الآيات القرآنـية التـي تُؤكد حقه فـي الحكم، فسـرها حسب هواه، وجاء - أيضًا - بأحاديث تتصادم والنص القرآنـي، ومقاصد الشـريعة، ومنها مقولة: «إنَّ الإمامة فـي قريش»، و«لا يزال هذا الأمر فـي قريش ما بقـي منهم اثنان»!
     حاشا على رسول الإنسانـية، وعدو التعصب أنْ يقول مثل هذا الكلام، وهو الذي انتقل إلى جوار مُرسله ولم يوص، تاركًا لأصحابه حرية اختيار من يحكمهم، على اعتبار أنَّ السيـــــــــاسة ومغباتها اجتهاد بشـري، كـيــــــف لا؟ وهو من خاطبهم ذات يوم بـ «أنتم أعلم بأمور دنيـاكم»، وأنهى دوره بقـوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ علـيكُمْ نِعْمَتِي، وَرضـيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».

كفار التأويل
     
فـي عام 280هـ / 894م توجه الطامح يحـيى بن الحسين الرسـي إلى صعدة تلبيةً لطلب بعض أعيانها، سبق أنْ توجهوا إليه فـي جبل الرس، ورغبوه بالقدوم إليهم، وبايعوه إمامًا، وبمساندة منهم توغل جنوبًا حتى وصل إلى الشـرفة من قرى بنـي حشيش، إلا أنَّهم - حسب توصيف كاتب سيرته - خذلوه، ورجعوا إلى ما يُسخط الله، ورجع هو من حـيث أتى. 
      
استمر أعيان قبيلة خولان بن عامر من آل أبـي فطيمة (من بنـي سعد) بمراسلته، وكان بهم - كما أشار بعض المُؤرخـين - نــزعة تشيع، وحـين رفض الحضور، أرسلوا إليه وفدًا من كبرائهم، ألحوا علـيه بالقدوم، وقيل إنَّهم أرادوا بذلك إغاظة بنـي عمومتهم الأكـيليين (من الربيعة)، أعدائهم الموالـين للعباسيين، اللذين كانت بينهم ثارات وحروب.
     
وصل يحـيى بن الحسين إلى صعدة 6 صفر 284هـ / 15 مارس 897م، ومعه حوالـي 50 فردًا من أبناء عمومته، وقيل من أنصاره، وكان عمه محمد بن القاسم قد امتنع عن الذهاب معه، وودعه وأباه فـي الرس قائلًا: «يا أبا الحسين لو حملتنـي ركبتاي لجاهدت معك يا بنـي، أشـركنا الله فـي كل ما أنت فـيه، وفـي كل مشهد تشهده، وفـي كل مُوقف تقفه.. أترانـي أعيش إلى وقتٍ توجه إليَّ مما غنمته، ولو بمقدار عشـرة دراهم أتبارك بها؟!».
     
فرح بنو سعد بمقدم يحـيى بن الحسين كثيرًا، رحبوا به أيما ترحـيب، وبايعوه وبنـي عمومتهم من الربيعة - بعد أنْ أصلح بينهم - إمامًا، وتلقب بـ (الهادي إلى الحق)، وخوطب بـ (أمير المؤمنين). وقد أعطاه خروجه ذاك إجلالًا ومهابةً وهـيمنةً روحـيةً كبيرةً، ألزمتْ أنصاره الطاعة دون تلكؤ، والانصياع دون تفكـير. وكان دائمًا ما يشبه نفسه بالرسول الأعظم؛ بل خاطبهم قائلًا: «والله لئن أطعتمونـي ما فقدتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شخصه»! اللافت فـي الأمر أنَّه نهاهم عن مناداته بـ (السيد)، وحـين قال أحدهم: «جعلت فداء للسيد»، قال له: «لا تعد تقول هذا مرة أخرى، فإنما السيد هو الله، فإنما أنا عبد ذليل».
     
ويذكر المُؤرخون أنَّه قبل خروجه ذاك، كان قد توجه إلى طبرستان، إلا أنَّ محاولته بتأسيس دولته هناك فشلت؛ والسببُ كثرةُ مُنافسيه. كسب فـي المُقابل أنصارًا كُثر، توافدوا - فـيما بعد - لنجدته، ونقل كاتب سيرته أنَّه وأثناء وصوله صعدة قال: «والله لئن لم يستوِ لـي فـي اليمن أمرٌ، لا رجعت إلى أهلي، أو أضـرب الشـرق والغرب حتى أقيم لله حجته».
      
كما تتناقل بعض كتب الزّيدِيّة مقولة منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فـيها: «يخرج فـي هذا النهج - وأشار بيده إلى اليمن - رجل من ولدي اسمه يحـيى، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحـيى الله به الحق، ويميت به الباطل»، وأنَّ الإمام القاسم بن إبراهـيم - كما أفاد المُؤرخ الهاروني - قال ساعة مولد حفـيده وتسميته: «هو والله يحـيى صاحب اليمن»!
     
وتبعًا لذلك قال الهادي يحـيى بن الحسين عن نفسه: «والله لو كان معـي ثلاثمائه وثلاثة عشـر مؤمن، لا؛ بل لو كان معـي خمسمائة - لأنَّ تلك كانت فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - لدست بها اليمن»، وقال أيضًا مُعتدًا بنفسه: «بمعونة الرحمن أملك أرضهم، وأذل فـيه كل من يتجمع».
    
ليحـيى بن الحسين عشـرات من الكتب والفتاوى الدينـية، وهـي بِمُجملها مَوروث ضخم، أسس من خلاله لمذهب دينـي جديد، غلَّفه بالسياسة، ولغمه بالعنصـرية، وانحرف به كثيرًا عن المذهب الزيدي الأم، وجعل الإمامة فـيه موازية للتوحـيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصـرها بشقيها السياسـي والدينـي فـي ذرية الحسن والحسين، وجعل لها 14 شـرطًا مُلزمًا، كالأهلية الجسمية، والعلمية، وغيرهما.
      
وكما حصـرت النبوة فـي ذرية إبراهـيم علـيه السلام، حصـر الهادي يحـيى الإمامة فـي ذرية محمد صلى الله عليه وسلم - رغم أنَّ النبـي الأعظم لم يُعقب - وقال: «فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك فـي ولد إبراهـيم صلى الله علـيه، إلى أنْ بعث الله محمدًا صلى الله علـيه وعلى آله، فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبـياء به».
      
وتبعًا لذلك، استدل الرسي بعدد من الآيات القرآنـية، والأحاديث النبوية، فسـرها حسب هواه، وقال إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنـي أنثى ينتمون إلى أبـيهم، إلا ابنـي فاطمة فأنا أبوهما، وعصبتهما»، فـي مُخالفة صـريحة لقوله تعالى: «أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله»، وقوله تعالى: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبـيين وكان الله بكل شـيء علـيمًا»، وقال إنَّ ورثة الكتاب فـي قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفـينا من عبادنا»، هم: «محمد وعلـي والحسن والحسين، ومن أولدوه من الأخيار»!
     
وأكد يحـيى بن الحسين فـي موضع آخر: «يجب على المكلف أنْ يعتقد أنَّ الإمامة فـي ذرية الحسن والحسين دون غيرهم، وأنَّ الإمام من بعدهما - من ذريتهما - من سار بسيرتهما، وكان مثلهما، واحتذا بحذوهما»، وأردف: «وتثبت الإمامة للإمام، وتجب له من الأنام فـيمن كان من أولئك، فقد حكم الله له بذلك، رضـي الخلق أم سخطوا»!
     الهادوية كمذهب لا تتعايش مع مُخالفـيها إلا باعتبارهم تبعًا؛ بل تكفرهم ما داموا لا يخضعون لرؤيتها وتفسيرها الدينـي للكون والحـياة، وحـينما وجد الهادي يحـيى تخاذلًا ورفضًا من قبل بعض القبائل اليمنـية لدولته الدينـية، ومذهبه الإقصائـي، كفرهم بالجُملة، وأعلن الجهاد علـيهم، وقال فـيهم:

يا أمـة الكـفر الــذيـــن تجـــمـــلـوا
بالصـغر منــهـم طـاعة الشيـــطان
رفضوا الهــدى والحـــق ثم تعلقوا
وتمســـكـوا بــــالظـلــــم والعدوان
وعصـوا بكفرهم الإلـه فأصبــحوا
مُــتقـــلـــديـن ســلاســل النــيـران

وقال مُخاطبًا الأكـيليين:

دعــــــــوت الناس كلـهـمُ لحقٍ
وأكثـرهم عن التقـــــوى يحيدُ
لأنَّهم علـــى فسـق تـوالـــــــوا
ويتبـــع ذلك الكــــــفرَ العنـــيدُ
فقلت لهــــــم ذروا كفرًا وفسقًا
وخلـــوه فقــــالـــوا لا نــريــدُ
     
والأسوأ من ذلك إجازته لأبناء القبائل المناصـرين له قتل ونهب وسلب أموال المعارضـين لدولته، المُخالفـين لمذهبه، بحجة أنهم كُفار تأويل، وهـي الفتوى التـي جاءت مُتماهـيةً وطبيعة تلك القبائل المجبولة على الحروب، والمعتاشة على الفـيد، والمُنهكة بشظف العيش، وقسوة الجغرافـيا.
      
كفار التأويل فـي مذهب الهادي يحـيى هم المخالفون لتفسيره للنصوص الدينـية التـي هـي باعتقاده مُلزمة بولاية آل البيت، على اعتبار أنَّهم الركن الثانـي فـي التشـريع، مُستدلًا بالحديث النبوي الذي ضعفه كثيرون: «تركت فـيكم من إن تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتـي»، وهو المدخل الذي تسلل به ومن خلاله للتحكم فـي مصائر الناس، وبموجبه صار كل من يُخالفه كافر تأويل، مُستباح الدم والمال، ويؤكد ذلك قوله:

وقلــت ألا احقنـوا منـــي دماكم
وإلا تـــــحــــقنــــوها لا أبــالـي
ولســت بمسـرعٍ فـي ذاك حــتى 
اذا مــا كُفْـــرُ كــافــركم بـدا لـي
وحلَّــت لـي دمــــاءكــم بــحـــقٍ
وإخراب السـوافــــل والعـــوالـي
وقطع الزرع واســـتـوجبــتمـــوه
بما قــد كـــــان حـــالًا بعـد حالـي
     
وجاء فـي (مجموع رسائله) قوله: «ووجب به علـينا جهاد من أبدى لنا المعصية، وثبتت به لله سبحانه فـي ذلك علـينا الحجة، حتى حكمنا بالهلكة على المُخالفـين عن دعوتنا، وبالنجاة للمُسلمين على أمرنا، الساعين فـي طاعتنا».     
     
الأدهى والأَمَرُ من ذلك، أنَّه حكم على أبـي بكر وعمر بن الخطاب بالردة، وقال إنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأنْ كفر جُموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علـي بن أبـي طالب علـيهما، وقال فـي مقدمة كتابه (الأحكام): «إنَّ ولاية أمير المؤمنين وإمام المتقين علـي بن أبـي طالب علـيه السلام واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان، حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان»، وأضاف: «فمن أنكر أنَّ يكون علـيا أولى الناس بمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رد كتاب الله ذي الجلال والطول، وأبطل قول رب العالـمين.. وأكذب رسول الله فـي قوله، وأبطل ما حكم به أمير المؤمنين، فلا بد أنْ يكون من كذَّب بهذين المعنيين فـي دين الله فاجرًا، وعند جميع المسلمين كافرًا»!
    
من المعلوم أنَّ علـيًا بن أبـي طالب لم يُكفِّر الخارجين علـيه، مُؤسسًا بذلك لتشـريع أجازه الجميع، إلا أنَّ الرسي - من يدعي أنَّه حفـيده - خالفه، وكفر مُعارضـيه، وبالغ فـي سبهم، وأجاز هدم منازلهم، وحرق وإتلاف مزارعهم، وسبـي أموالهم، فـي قتال أو فـي غير قتال.
     أجاز الهادي يحـيى أيضًا سبـي أولاد حديثـي الإسلام، الذين أسلم آباؤهم وقد بلغوا الحلم، وقال فـي ذلك: «لو أنَّ رجلًا من أهل دار الحرب أسلم وهاجر الى دار الإسلام، ثم ظهر على تلك الدار التـي فـيها ولده، كان كلما ولد له لم يكن بلغ فـي وقت إسلام أبـيه مسلمًا تابعًا لأبـيه، لا غنيمة للمسلمين فـيه، ومن كان منهم بالغًا فـي وقت إسلام أبـيهم، كان غنيمة للمسلمين».
     
المفارقة العجيبة أنَّ التكفـير الهادوي طال أقرب المذاهب إليه، الإثنى عشـرية، رغم اتفاقه معهم فـي كثير من المسائل، فـي الأصول أو فـي الفروع، هاجمهم فـي أحد كتبه، ونُقل عنه قوله: «هذه الفـرقة شـرذمة مُخالفة للحق فـي كل المعانـي، فـي الكتاب والسنة، هذه الإمامـيـة حزب الشيطان، الرافضين للحق والمحقين»، وقوله: «هـؤلاء الإمامـية الذين عطلوا الجهاد، وأظهروا المنكر فـي البلاد».
     
وفـي المقابل كفَّر بعضُ علماء الإثنى عشـرية الإمام الهادي، وكفروا الإمام زيد بن علـي؛ لأنَّه ابن جارية، وقالوا إنَّه ادعى الإمامة وهو غير أهل لها، وعن ذلك قال محمد باقر المجلسـي: «كتب أخبـارنا مشحونة بالأخبـار الدالة على كُفـر الزّيدِيّة، وغيرهم من الفرق المضلة المبتـدعة، ومـذاهبهم السخيـفة الضعيفة».
     
كما أفتى الهادي يحـيى بإبطال شهادة من لم يُقاتل معه من أنصاره، وحكم علـيه بالنفاق الأكبر، وأنَّه ملعون، ومُعاند، ومُحارب لله، وقال فـيه: «وجب على الإمام إبعاده، وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفـيء، ووجب على المسلمين منابذته فـي العداوة، والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره..».
      
مؤمنون وكفار، هكذا أصبح اليمنـيون فـي ظل الدولة الهادوية، وصار هذا التقسيم باديًا بوضوح فـي تصـرفات وأقوال الإمام المؤسس، ولا أَدلَّ على ذلك من مراسلته للدَّعام بن إبراهـيم (شيخ بكـيل) قبل إحدى المعارك بينهما، وقوله له: «لا تقتتل العرب فـيما بيننا، وابرز لي، ويوقف الناس حتى أقاتلك، فإن قتلتنـي استرحت منـي، وعملت ما تريد، وإن قتلتك استراح منك أهل الإسلام».
     
ذات التصـرف كرره أيضًا مع إبراهـيم بن خلف (أحد أمراء بنـي طريف)، حـيث راسله قائلًا: «عـلام يقتتل الناس ويلك بينـي وبينـك، ابرز إلـيَّ، فإن ظفـرت بـي أرحتَ منـيِّ الكافـرين، وإن ظفـرتُ بك أرحتُ منكَ المـؤمنين».
     
وفـي إحدى مَعاركه مع البكـيليين نقل كاتب سيرته عنه تفاصيل أسطورية، وبأنَّ الشيخ الدعام التقاه بـ 100 فارس، و1,000 راجل، ولم يكن مع الهادي يحـيى إلا سبعة من الفرسان، واجههم جميعًا، ولم يتزحزح من مكانه، وقال فـيهم: «والله محمود ما دخل قلبـي منهم رعب، ولا اعتددت بهم، وكـيف أعتدُّ بهم وأنا أعلم أنَّ الله معـي، فإن قُتلت فإلى الجنة، وإن قَتلت منهم واحدًا صار إلى النار»، وكان فـي تلك المعركة رجل مقبلًا يرميه بالحجارة، فقال الهادي يحـيى لرجلٍ من أصحابه: «خذ هذا السهم فارمـي به هذا الكافر». 
     
وتعدى ذلك التقسيم من هم على قيد الحـياة إلى من قضوا نحبهم، وهلكوا فـي تلك الحروب العبثية، وهم بالمئات، وعن ذلك قال الهادي يحـيى: «حتى سمينـا من قتله الظالمـون منا شهـيـدًا، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهـداء، وسمينا من قتلنا نحن من الظلمة كـافرًا مُعتـديًا، وحكمنـا علـيه باستحقاق الوعيـد من العلـي الأعلى».

مُشكلة اليمن الكبرى
     
الإمامة مُشكلة اليمن الكبرى، هذا ما خلص إليه أبو الأحرار الشهـيد محمد محمود الزبيري، فـي كتابه (الإمامة وخطرها على وحدة اليمن)، مُعرفًا إياها: بأنَّها فكرة مذهبيـة طائفـية يعتــــنقـها مـن القـــــديم شطر مــن الشــعب، وهـم الزّيــــدِيّة - أي الـهـادوية - سكان اليـــمــن الأعلى، وأنَّ باقـي اليمنـيين لا يـدينـون بها، ولا يرون لها حقـًا فـي السيطرة علـيهم، مُشيــــرًا إلى أنَّ التَحكم الإمامـي خلق شعــــــــــــــورًا مـــريرًا لـــدى الغالبيــــــــة، وأبقى الانقسـام ظلًا قاتمًا رهـيــــــــــــــبـًا يخيم على البـلاد.
     
تـَعاقب على حُكـم الإمامة الزّيدِيّة - عبر تـاريخها الطويـل - أكثر من 100 إمام، وما من أحدٍ من هـؤلاءِ إلا ووصل إلى الحكم على نـهـرٍ من الدمـاء، إما فـي حـروبٍ عبثيـة اعتـادوا العيش فـي أجـوائها، أو فـي صـراع أسـري بينَ إمـامٍ وآخـر، وقد سجـل التاريخ وجـود أكثر من دولة، وأكثر من إمام، فـي نفس الحقبة، وفـي نفس المربع.
      
استجلب هؤلاء الأئمة جميع مساوئ التاريخ، وغلَّفـوها بمساحات شاسعة من القهر، والذل، والحرمان، وشـرعنوا لحكمٍ سلالـي - كهنوتـي، كـان - ومـا يزال - سببًا لأغلب رذائـلنا الاجتماعية، والسياسـية.
     أبدعـوا وبدَّعوا فـي الاستيلاء على البلادِ، وفشلوا فـي إدارتها؛ لأنَّ مشـروعهم قائم فـي الأساس على السيطرة والاستحواذ، لا الإدارة والحكم. قـادوا البلاد والعباد بما أملته علـيهم رغباتهـم الفجَّـة، وفَصّلوا فقهًا سياسيًا يشملهم بكل الخيرات، ويستثنـي كل اليمنـيين.
     
مـارسوا العبث على عباد الله، فـي حـياتهم وممتلكاتـهم، فـالاستبـداد المُطلق كان عنـوان حكمهم وهويتـه اللصيقـة به، والطغيان الأحمـق كان سلوكهم اليومـي الذي يتباهون به. حاربوا منـابع التنـوير - من مـدارس، وجامعات ومسـاجـد، وجعـلـوا منها خصمًا لـدودًا يستحـق التدميـر والنسـف، ورأوا فـي المتعلميـن ودعـاة الحـرية أعـداءً لهم وللـدين.
     
كانوا يقولـون إنَّهم يَحكمـون بـأمر الله، وباسم الحق الإلهـي، فـي صورة مُشابهة لتلك التـي حدثت فـي أوربا إبانَ العصورِ الوسطى، مُكررين ما قاله جيمس الأول ملك بريطانـيا ذات يوم، بــ «أنَّ الملوك يـَمشُـون على عـَرش الله فـي الأرض». وما مـن استبداد سياسـي - كما قال الكواكبي - إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله. والطغاة - كما قال علـي الوردي - «يعبـدون الله، وينهبـون عباد الله فـي آن واحد».
      
وهذا الشهـيد محمد محمود الزبيري وصف حكم الأئمة بأنَّه حكمٌ مُطلق من كل القـيـود، حتى من قيود الاعتبارات الدكتاتورية نفسها، وأنَّ الإمام يعتقد أنَّ سلطته من السماء، وأنَّ اللهَ هو الذي اختاره ليحكم هذا الشعب، وألهمه أنْ يعمل وأنْ لا يعمل، وأنَّ الله هو الذي جعـل من تصـرفاته شرائع تنسخ الشـرائع، ودينًا ينسخ الأديان.
     
وأضاف الزبيري: «حسب الواحد منهم أن يتربع على العرش، ثم يقول للناس إنَّ الله هو الذي ولاه، أنَّ الله هو الذي أمر الناس أنْ يطيعوه، وأنْ يخدموه، وأنْ يقدسوه، وأنْ يموتوا فـي سبـيل نصـرته، وأنَّ حكمه ليس مُستمدًا من الشعب، ولا من فضل الشعب؛ بل هو منحة من السماء، إنه ظل الله، ونائب الله وخليفته». ولا ضير أنْ يتحول أبناءُ الشعب إلى مُجرمين، ولصوص، وقطاع طرق، تباح دماؤهم وأموالهم وأعراضهم بمجرد أنْ يغضب الإمام أو يغضبوا علـيه.
     
أقـام الأئمة حُكمهم على جَماجم البشـر، وهـيـاكل الشعارات الدينـية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم. وحـين صار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصول الدين؛ عمدوا على محـو هوية اليمنـيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم.
     
تحدث عبدالرحمن بن خلدون - عالم الاجتماع الشهـير - فـي مقدمته عن الجدلية المأساوية بين البداوة والحضارة، وأكد فـي نظريته التـي استخلصها حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، إنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أنْ تستحكم فـيها دولة، مُستشهدًا بحظ الدولة الإسلامـية بمصـر والشام وبلاد فارس لقلة القبائل والعصبيات فـيها، فشأنها كما قال: «إنما هو سلطان ورعية»، بخلاف حظها مـع قبائل البربر بأفريقيا والمغرب المشابهة إلى حدٍ كبير لـمُعظم قبائل اليمن الشمالية. ومن هذا المنطلق، فثمة علاقة جدلية وتأثير مُتبادل بين كل من العصبية والدين، والدعوة الدينـية من غير عصبية لا تتم، والعصبية - كما قال ابن خلدون - إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شـيء. 
     
وتبعًا لذلك، فقد استقطب الأئمة السلاليون باسم الدين المُزيف قبائل اليمن الشمالية، وأنعشوا أسوأ ما فـيها، وخلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفـيد دينًا، والتسلط رجولة، وأغـرقوا أبناءها فـي الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ورسَّخوا فـيهم التمايز الطبقـي، والاستعلاء الفارغ، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِـهن الحرفـية، والأشغال التجارية. وهكذا، وبالنفسـية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء كالذئاب المسعورة صوب المناطق الجنوبية، والغربية، قتلوا، ونهبوا، ودمروا - جهادًا فـي سبـيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.
     
تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمـُـجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ» أسوأ حقيقة، وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثـية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، وبرهنت لنا وبشدة أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المُستقبـل له ألف سبب يُبرره.
     
وبالعـودة إلى أدبيات الشهـيد الزبيري ومقولاته الخالدة، نجد أنَّه قد تنبأ وهو فـي ذروة نضاله، وقمة عطائه، بـأنَّ معارك المستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المسماة (الإمامة)، وأنَّ مشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربـية والدولية شئنا ذلك أم أبـينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.
     
وللخروج من هذه المُعضلة، وهذه اللعنة الأزلية المُتجددة، قال الزبيرى - ناصحًا شعبه - : «فإذا أراد اليمنـيون أن يجنبوا بلادهم كل هذه الاحتمالاتِ الرهـيبة، ويحتفظوا باستقلاليتها، وسيادتها، ووحدتها، وبقاء اسمها على الخريطة، فليشطبُوا على هذه الخرافة التـي تُعطي لنفسها حقًا مُقدسًا فـي الحكم لفئةٍ معـينة من الناس، وليُتيحوا لكافة فئات الشعب فرصًا مُتساوية فـي الحكم، ذلك هو الحق الواضح المستقيم، لا نذكره تعصبًا لفريق من اليمنـيين دون فريق، وإنَّما نذكره حرصًا على وحدة الشعب بأسـره، وعلى حريته واستقلاله».
     
وهكذا، وباسم الدين المُزيف، والولايـة، خدع الأئمة السلاليــــون أنصارهم، وما يزال اليمن والـيمنـيون يكتوون بنار مذهبهم العنصـري، ولعنة ولايتهم. ولأنَّ الفكر الكهنوتـي لا يجابه إلا بالفكر العقلانـي، وجب علـينا جميعًا نقد كل ما هو سلبـي فـي موروثنا المُثقل بالدم والصـراعات، وفضح وتعرية أرباب التجارة بالأديان، أينما كانوا، وحـيثما حلوا، واستشعار أنَّ الله الرحمن الرحـيم لا يمكن أنْ يعطينا - كما قال ابن رشد - عقــولًا، ويعطينا شـرائع مُخالفة لها.


Create Account



Log In Your Account