الأربعاء 19 يوليو ,2023 الساعة: 08:16 مساءً
تجسدت الخلافات الزّيدِيّة - الزّيدِيّة بصورة أعنف بتمدد المُطرَّفية، وهي جماعة تنسب إلى مُطرف بن شهاب، خالفوا السائد من عقائد الاعتزال، وعقائد الزّيدِيّة، وتخلوا عن شرط البطنين، والتفضيل بمجرد النسب، وسعوا لتجريد المذهب الزيدي من طبيعته السلالية، وكانوا حسب توصيف علي محمد زيد بعيدين عن أية شائبة عُنصرية مُبتذلة.
أنكروا على المنصور عبدالله بن حمزة مُخالفته لبعض نُصوص الهادي يحيى بن الحسين، واختياراته في الفروع، ليدخل معهم في نقاشات طويلة، قادته إلى تكفيرهم، رغم أنَّهم سبق أنْ بايعوه، ووقفوا إلى جانبه أثناء محاربته الأيوبيين، وهي حقيقة أكدها كثير من المُؤرخين، وأكدها ذات الإمام بقوله: «وأن الشيعة المُطرَّفية أول من أجاب دعوتنا، وأعطى بيعتنا، وشهد بالسر والجهر بإمامتنا».
تنكر ابن حمزة بعد ذلك لـجماعة المُطرَّفية، وقال فيهم: «فإنْ كانوا صدقوا في الابتداء، فقد كذبوا في الانتهاء، وإن كذبوا أولًا؛ فما المانع أن يكونوا في الحالين كاذبين سواء»، وقال في عقيدتهم:
مُطــرَّفة عــاصت مقــال نبـــــيــها
ولم تخش في العصيـــان لومة لائم
فكم فيهم مـــن جــاهـــــل متفيـهق
كريـه المـحــيا كــالكــبـاع حـراصم
غـدا يدعــي أنَّ النــبـــي شبيـــــهه
فـــأعظـم بـهـذا مـن عظيـمة زاعم
وتبعًا لذلك اتهمهم كاتب سيرته بالنفاق، وقال فيهم: «والشيعة المُطرَّفية مع كثرة عددهم، واتساع هجرهم، يثبطون عنه، ويتربصون به، فإن وقع نصر من الله، واستظهار الإمام عليه السلام، جاءوا إليه يشهدون بالإمامة، ويطلبون الولاية، وإن انتزح عن البلاد، لم يقوموا لله بفرض يلزمهم من جهاد، ولا إقامة جمعة، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر».
بعد هذا التضارب المُسف، وجب التذكير أنَّ المُطرَّفية لم يتخلوا عن مُناصرة ابن حمزة إلا حين توقف عن محاربة الأيوبيين، قالوا عنه أنَّه طالب سُلطة، ثم تعاضدوا حول العلامة محمد بن المفضل العفيف، الذي كان حينها من أبرز المتعاطفين معهم، ألزموا الأخير الحجة؛ فجدد دعوته احتسابًا، وزادوا على ذلك بأن جاهروا بمعارضتهم لابن حمزة، وهجاه أحدهم ويدعى الحسن بن محمد النساخ بأرجوزة طويلة، شكك فيها بنسبه، وصلنا منها:
فما اقتـنى أحمــــد منـها درهما
ولا اجتـــبى إلا الذي منها حمى
فيما روته إن حــفــــظت العــلما
ويـــــح الطُـغـــــاة إن دعــوك قيـما
في نسب مستـــرق مــــــذبــــذب
مـُلفَّـــق مــــروق مــضـطــرب
يقول أصلي مـــن علـــي والنبـي
ما صحــحـت هــــذا رواة النسبي
صارت مناطق المُطرَّفية مثل سناع، ووقش، وقاعة في جبل عيال يزيد، وبلاد البستان (بني مطر) خاضعة لحكم مُحتسبهم، وهي بمجملها مناطق زراعية توفر فائضًا يسمح بالحصول على موارد، إلا أن وفاة العفيف مطلع عام 600هـ / سبتمبر 1203م حالت دون قيام دولة المُطرَّفية، أو بمعنى أصح تمددها.
بدأ ابن حمزة بعد ذلك يتربص بأصحاب العفيف شرًا، نهض إلى مُدع (ثلا)، وخطب هناك خطبة في الناس، أفتى فيها بردة المُطرَّفية، وكفرهم، وكتب على جدران إحدى المساجد:
ولقد حلفت وعادتي أني وفي
لا يـــدخلنك ما حييت مُطرَّفي
فكتب أحد المُطرَّفية تحتها:
أو مـا علمــت بـــــأنَّ كــل مُطرَّفي
عمـا عمـرت مــــن الكنـائس مُكتفي
أنــتم ومسجــدكم ومــــذهبكم معا
كــذبالة في وســط مصــباح طُفي
بعد أن اصطلح مع الأيوبيين، تفرغ ابن حمزة لجماعة المُطرَّفية، الذين تكاثروا تحت قيادة أبي الفتح بن محمد العباسي، وصارت لهم صولات وجولات فكرية في معظم المناطق الزّيدِيّة، وعزم على التنكيل بهم، وحين بادروا بإرسال مجموعة من زعمائهم وعلمائهم للمناظرة، ونزع فتيل الخلاف قبل أن ينفجر، اعتذر عن ملاقاتهم متحججًا بذهابه إلى الجوف، ثم ما لبث أنْ قال مُهددًا:
لست ابن حمـزة إن تـركت جماعـــــــة
مُـــتــجمعـــيـــن بــــقـاعـــــة للمـــنـكر
ولأتــركنــــــهم كـــمـــــثـل عجــــــائز
يبــكـيــــن حــول جـنــــازة لــم تـــقبـــر
ولأرويــــــن البيـــــــــض مــن أعناقهم
وسنـــــابك الخيـــــل الجيـــــاد الضـــمر
لم تمض أيام قلائل حتى نفذ ابن حمزة تهديده، أرسل إلى هجرة قاعة بجيش كبير بقيادة شقيقه يحيى، قام ذلك الجيش بمجزرة عظيمة في حق سكان تلك المنطقة 603هـ، وإمعانًا في إذلالهم، ألزم ذات الأمير من استسلم منهم بوضع الزنار علامة لهم، تمامـًا كاليهود.
أجبرت تلك التصرفات من تبقى على قيد الحياة من المُطرَّفيية على الهرب إلى مسور، ووقش، أو الالتجاء بالأيوبيين، وعن ذلك قال أحد شُعرائهم:
فـأعجب لنا ملك الأكراد يكرمنا
وبنـي النـــبـــي علـــيـنا أي جـــبار
ونحن أنصـاره الـحـامون حـــوزته
فمن لأنـصاره يــومــــًا بـأنصـــار
وقــــال نحـــن ذو كفر وقد علمت
هـــذي الـــبـريـــــة أنَّا غـيـــــر كفـار
كتب ابن حمزة حينها رسالة إلى ورد سار - أحد القادة الأيوبيين - مُعاتبًا، وعارضًا عليه أن يتحالفا معًا للتنكيل بالمُطرَّفية، جاء فيها: «وأما الذي يوحشنا فتسليمك للمُطرَّفية المرتدة الغوية، مع قدرتك عليهم، وما تركتهم إلا لأنهم يبغضونا، وهي بغضاء لا تضرنا، والقوم كفار في دار الإسلام، ولقد كتموا مذهبهم، ولقوا دونه الأيمان، والله يشهد أنهم لكاذبون، فإن رأيت قطع دابرهم، فأنا شريكك في دمائهم، ألقى الله بذلك».
وما يجدر ذكره أنَّ الإسماعيليين ودُعاتهم حضوا أيضًا بحماية الأيوبيين من بطش الطاغية عبدالله بن حمزة، وعن ذلك قال مُؤرخهم إدريس عماد الدين: «وكان الغز - أي الأيوبيون - إذا ملكوا صنعاء شملوا أهل الدعوة - أي الإسماعيليين - بالأمان، وكان لهم لديهم المرتبة والمكان».
اعترض حينها مجموعة من علماء الزّيدِيّة على ابن حمزة لقيامه بجريمته المُروعة في حق المُطرفية، فما كان منه إلا أن كفرهم بالإلزام، وكفر كل من أحب المُطرَّفية، أو قلدهم، أو أحسن الظن بهم، أو شكك في كفرهم، وشمل تكفيره جميع من لا يدينون بمذهبه، وقال مقولته الصادمة: «فقد صح لنا كفر أكثر هذه الأمة».
كان من جُملة المُعترضين على عبدالله بن حمزة، وممن نالته تهمة التكفير العلامة الهادوي يحيى بن منصور بن المفضل، وأخاه يحيى المعروف بـ (المشرقي) إبني أخ العفيف السابق ذكره - تضامن الأول مع المُطرَّفية، وقيل أنَّه أعلن نفسه إمامًا 603هـ، أما الأخير فقد كان شديد التعصب لمذهبهم، صير نفسه نصيرًا لهم، وأعلن - هو الآخر - بعد ستة أعوام نفسه إمامًا.
جدد ابن حمزة حينها العزم على ملاحقة المُطرَّفية إلى عقر ديارهم 609هـ، وإبادتهم عن بكرة أبيهم، خاض المشرقي غمار مواجهته، مَسنُودًا بسكان المناطق الواقعة شمال غرب صنعاء، التي كان غالبيتهم من تلك الجماعة، توجه الأمير يحيى بن حمزة إليهم بجيش كبير، التقى الجمعان، وكانت الدائرة على المشرقي، هرب إلى جبل مسور، لتسقط المناطق الخاضعة لحكمة الواحدة تلو الأخرى.
حكم ابن حمزة على تلك المناطق بأنها دار حرب، «تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم، ويقتلون بالغيلة والمجاهرة، ولا تقبل توبة أحد منهم»، وأفتى: «وهم بشهادتنا وشهادة من تقدمنا من آبائنا الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، من أخبث الكفرة اعتقادًا، وأظهرهم لأهل بيت النبي عنادًا، وقد أطلقنا لكافة المسلمين قتلهم، وأخذ أموالهم، وسلبهم فيء، وذممهم حلٌ طلق لكافة المسلمين، وقتل من اعتقد اعتقادهم، أو حسَّن الظن بهم، أو داهنهم، وأمنهم، وخالطهم».
وبموجب تلك الفتوى قام ابن حمزة وعلى مدى عامين بملاحقة المُطرَّفية، وأرتكب جرائمه المروعة في حقهم، قتل أكثر من 100,000 من رجالهم - وقيل أقل من ذلك - وسبى نساءهم، واستعبد أطفالهم، وهدم دورهم، ومساجدهم، وأخرب مزارعهم، وصادر أملاكهم.
وجاء في إحدى رسائله ما يؤكد ذلك، حيث قال: «وهذه المُطرَّفية قد قتلنا من قدرنا عليه منهم، وأوهن الله كيدهم، وجددنا العزم في المستقبل على تحريق من وجدنا من علمائهم، وإلى الآن لم نظفر بأحد، ونرجو من الله الظفر»، وأضاف: «وإنما فعلناه تقربًا إلى الله عزَّ وجل، لإظهارهم صريح الكفر في بحبوحة الإسلام»، وأقسم على أنَّ «جهادهم، وسفك دمائهم أقرب إلى الله سبحانه من جهاد الكفار في ثغور الإسلام».
وزاد على ذلك شعرًا، نقتطف منه:
فحـــــل لي قتلُ مـــن أدلى بحجتهم
ممـن غــــــدا بالغًا للحـلـم مـــن ذكرِ
يــا مــــن تحيـر فـي شـكٍ لقتــــلهم
اذكـر، وكـــن ذا حفـــاظٍ قصة النهرِ
في تلك الأثناء توجه الحسن النساخ إلى بغداد، وطلب من خليفتها الناصر أحمد النصرة، والقضاء على عبدالله بن حمزة، وتحدث عن محنة المُطرَّفية قائلًا: «أذكى وقودها قائم من بني الحسن، تمالى مع أهل اليمن على نصرته، وسارعوا إلى جمعته وجماعته، وعقدوا له الألوية والبنود، وأطاعوا أمره كطاعة الملك المعبود، وحشدوا له الرعية والجنود، ولقد قدر علينا واستظهر..».
أرسل الخليفة العباسي إلى الأيوبيين في مصر 611هـ، وحثهم على نصرة المُطرَّفية، وإخماد إمامة ابن حمزة، وذلك بالتزامن مع سيطرة الأخير على أغلب المناطق الشمالية؛ بعد أن استغل مقتل الملك الناصر أيوب بن طغتكين مطلع ذلك العام / مايو 1214م.
توجه الملك الشاب المسعود يوسف بن الكامل محمد بحملة كبرى إلى اليمن، ليبدأ حكمه بدخول مدينة تعز 10 صفر 612هـ / 9 يونيو 1215م، وما إن علم ابن حمزة بتوجه الجيش الأيوبي نحوه، حتى سارع بالانسحاب من ذمار، ثم من صنعاء، بعد أن خرب دور الأخيرة، وهدم أسوارها، وسبى نساءها.
السبي أسلوب شنيع انتهجه عبدالله بن حمزة في معظم حروبه، وألف فيه كتابًا أسماه: (الدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبي والغنيمة)، وروي عنه قوله: «أما السباء فنحن الآمرون به»، واثناء تنكيله بـالمُطرَّفية سبى الكثير من نسائهم، وقال فيهن: «إننا لا نستحل فروجهن إلا لأننا نعلم أنهن مغلوبات على أمرهن، ولأنهن قد يخالفن أولياء أمورهن إذا ما تبدت لهن الحقيقة».
ومع هروبه الأخير من صنعاء سبى عددًا كَبيرًا من النساء، والأولاد من العرب والعجم، وذكر بعض المُؤرخين أنَّ شقيقه يحيى سبى مجموعة من نساء تهامة في إحدى معاركه، وسبى حوالي 600 امرأة من صنعاء، بعضهن أيوبيات، وقسمهن في قاع طيسان بين رجاله، اختار ابن حمزة واحدة منهن لنفسه، وهي أيوبية من آل قنطور، وأنجب منها ولدًا أسماه سليمان، وخاطبه قائلًا:
سليمان بيتاك من هاشم
ومن آل قنطـــــــور بيتا شرف
قام عدد من علماء الزّيدِيّة بانتقاد ابن حمزة لتصرفه ذاك، أما أنصاره ممن شاركوه جرائمه المُروعة فلم ينتقدوه إلا حينما امتدت أياديه لسبي حفيدات الإمام الهادي يحيى بن الحسين، من نساء آل المفضل، وقد علق على ذلك قائلًا: «قالوا: تسبي بنات الهادي؟ قلنا: نعم، نسبيهن لكفر أهلهن».
هوامش:
هو مطرف بن شهاب بن عمرو العبادي، عاصر في شبابه المهدي حسين بن قاسم العياني، قال بادئ الأمر بإمامته، ثم رجع عن ذلك، خاصة عندما استحضر الأخير فكرة المهدي المنتظر، وادعى ذلك تصريحًا بداية عام 401هـ، كما عارض جعفر بن قاسم العياني الذي قال بغيبة أخيه، وعارض أيضًا الإمام أبو الفتح الديلمي الذي قدم من طبرستان سنة 437هـ، وعاث في المناطق الشمالية نهبًا وخرابًا، وعارض علي الصليحي، وله معه مواقف كثيرة.
يرجع نسب مطرف إلى قبيلة بني شهاب، عمل بداية عمره مزارعًا في بيت حنبص، وهي قرية تقع على السفح الجنوبي الغربي لجبل عيبان، ثم انتقل إلى سناع، وجعلها هجرة للعلم، ومركزًا لنشر دعوته، وابتنى فيها مسجدًا أسماه (عرابة)، هدمه عَبْدالله بن حمزة فيما بعد - وإليه وفد مريدوه، فيما تكفل وبعض داعميه في تحمل نفقات تعليمهم، عمل غلاة الزّيدِيّة على محو آثاره وأثره، ولم يصلنا من سيرته إلا النزر اليسير، والراجح أن وفاته كانت بداية عام 460هـ.
الزّيدِيّة في العقيدة معتزلة، وإن خالفوا المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، فجعلوا مكانها الإمامة، ويقول بعض الباحثين: «إن إعتزال زيدية اليمن في بداية أمرهم كان على طريقتهم الخاصة بهم، وليس هو الإعتزال المعروف المنسوب إلى واصل بن عطاء وأتباعه»، وقال الأكوع في (هجر العلم ومعاقله) أن عَبْدالله بن حمزة كان يبعث إلى العراق من يقتني له الكتب النادرة شراءً أو استنساخًا، ولا سيما كتب المعتزلة التي كانت له اليد الكبيرة في حفظها وبقائها في اليمن حتى اليوم.
هناك في الأعبوس حيفان أسرة تدعي نسبها للنساخ، كما أفاد الدكتور قائد محمد طربوش في كتابه (البجاد المفروش في أنساب تعز المنقوش)، وذكر في ذات الكتاب أنَّ ثمة روايات متواترة تؤكد أنَّ الجد الأول للأسرة هرب بفعل طغيان ابن حمزة من بني مطر - الراجح آنس - إلى جبل صبر، ولما رفض شيخ صبر قبوله توجه إلى الأعبوس، وسميت باسمه قرية النساخين. ويذكر بعض المؤرخين أنَّ هذا النساخ كان سبب مقدم الحملة الأيوبية بقيادة توران شاه، وأنَّه حين ظهر علي بن مهدي الحميري، واستبد بأمر اليمن، راسل الخليفة العباسي المستضـيء الحسن بن يوسف، وكتب مع الرسالة قصيدة طويلة، نقتطف منها:
غدت ملة الإسلام مفصومة العرى
وعــــامر ديـــن الله وهـــو خراب
يــــذبــح أبنــاء وتســـبى عقـــائل
ضلال يرى في أرضــنا وتباب
- من كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن)