الأربعاء 21 أُغسطس ,2024 الساعة: 02:37 مساءً
مجيب الرحمن الوصابي/ تونس
يكادُ يكون السفساري هو شيدر التونسيات، والشيدر سفساري العدنيات، والشبه واضح في الشكل وفي طريقة اللبس غير اللون وفي رمزيته الأخلاقية والسياسية وتأويلاته، وكلاهما من تلاقح الثقافات كما يُرجّح، ففي حين يُعتقد أنَّ السفساري أصلُه أندلسي فإنّ الشيدر فارسي المنشأ على الأغلب، ويبدو أنَّ الأصلَ الشرقي واحد في لونه الأبيض الذي تغيّر بتأثير مُعتقد الدولة الصفوية وتشيُّعها إلى اللون الأسود كما تشير المصادر وترجّح.
ولمّا غنّى فريد الأطرش ذو الأصول اليمانية عن غزلان تونس البيضاء إنما قصد ( لابسات السفساري)
"تونس أيا خضرا ... غزلانك البيضا... تصعب على الصياد!
السفساري مثل الشيدر العدني لباس نسائي تقليدي فضفاض، يتمثل في قطعة كبيرة من القماش مصنوعة من الحرير أو القطن أو السُّندس وترتديه المرأة فوق ملابسها العادية بمجرد خروجها من منزلها لقضاء شأن ما في السوق أو لدى الجيران لتستر به جسمها من رأسها إلى أخمص قدميها.
أما عن الشيدر العدني فصَوتُ الفنانِ مُحمدِ سعد عبد الله الجامعُ لكلّ لهجاتِ اليمنِ المتقن ُوهو يقول؛
رافعاتِ الشيادر ... روحن فوق جول الديس ملقات عاكر ... مثل لضباء دقيقات الخصور الضوامر.
يجعلني أشكُّ بأنّه قد سبق الفنانَ كرامة مرسال في غناء تلك الرائعةِ باللهجة الحضرمية التي ألفتها في صِغري وفُتنت بها.
يا رحمهم اللهُ؛ فلكلٍّ مدى صوتِه الأسطوريّ العابر؛ إنّما بالتأكيد أنّ مؤلف الرائعة الغنائية؛ ومن ابتدع اللحن الأستاذ صالح عبد الرحمن المفلحي هو المُجلي دون شك، أوّل من ترنَم بِها وأبدع، وأفرغ الشيادر من رمزيتها الدينية والأخلاقية، والوعظية من الجمال في العفّة والسِّتر إلى معاني العشق واللذة والهوى! ومن إخفاء المفاتن الجسدية إلى التغني بها، وهذا مذهب الشعراء منذ قديم الزمان.
مشرقات النواظر ... والجفون النواعس والعيون السواحر ... عاكفات الجعود الخامرة دون ساتر
ليتني كون معهن ... في سمر حيث يضوين ... عانك الله يا العاشق على قسوة الزين
"تحريق الشيدر واجب" ... واجب علينا واجب!
هذا شعار رفعه الرفاقُ في جنوب اليمن شعارهم التقدُّمي سبعينات القرن الماضي، فبالغت الذاكرة الشفهية-عند المتبرِّمين- ووالدي منهم رحمه الله من تلك الأوضاع-من وصفها عصاباتٍ شيوعيّة تطوف أحياء عدن في الأيام السبعة المجيدة، وتنزع عن كلّ امرأةٍ شيدرها غصبًا، وأحرق المناضل الرفيق بحماس (شيدر) إحدى النساء الثوريات باتفاق مسبق، إنّما النساءُ حينها قاومن تلك النزوة لدى الرفاق، وبقيت ثقافة الشيادر خطّ دفاع المتدينين المحافظين ضد الاشتراكيين التقدُّميين، بل زاد لمعانها ولم يُحرق إلا البخور فيها؛ ولكلّ شيدرٍ مكانٌ مميزٌ في الدولاب(الكبت) والبيت العدني.
وفي الفترة نفسها من حكم النظام الاشتراكي لعدن كانت حركة الشيادر/ الشادور جزءًا أصيلًا من مكونات الثورة الإيرانية ضد حكم الشاه، وغدا رمزًا لتمسُّك الشعب الإيراني بقيَمه الدينية التي دخلت في مواجهة مع نظام الشَّاه المنفتح بشراهة على ثقافة الغرب، وانتهت بقيام ثورة الخميني وعاد انتشار الشادور الإيراني في المدن بعد انسحابه إلى الأرياف زمن الحكم البهلوي. وفي تونس اكتسب السفساري قيمة سياسية ورمزية لكنه ظل تراثًا محترمًا حاضرًا إلى يومنا في الثقافة.
السؤال الذي يطرح:
لماذا انتشرت ثقافة الشيادر في عدن في فترة معينة ثم اندثرت؟ أليست ثقافة أصيلة؟
يمكن أن نضع احتمالًا واردًا أستحسنه، أنّ الشيادر في عدن اُستخدمت أوّل الأمر من نساء إيرانيات، جئن مع ذويهن إلى عدن، وهي طبقة مشهورة إبّان ازدهار مينائها مطلع القرن الفارط مثل أسرة (حسن علي) التاجر المعروف وغيرهم، وكانت من الطبقات الميسورة، لتقلدهنّ بقية الأسر في عدن.
من المعروف أنّ الفقراء يميلون إلى تقليد الأغنياء في الملبس والمأكل وكثير من الأنشطة والعادات، فربطة العمامة الهنديّة أخذها الناس في بعض اليمن عن السلاطين في الجنوب المتأثّرين بالثقافة الهندية، والجدير ذكره أن استعمال الشيدر/ الشادور في إيران ارتبط بالقومية الإيرانية، ولباس الطبقة الحاكمة، فقد كان ينظر هناك للمرأة المحجّبة أنّها زوجة للشخصيات المهمة، والمحجّبات خلف شيادرهن زوجات وبنات الشخصيات السامية المهمة، اليوم اختفت تمامًا الشيادر ولم تعد تشاهد وحلّت ثقافة العبايات منذ بداية التسعينات على استحياء ثم انتشرت كالحريق في أوساط النساء حتى "(أضاعت عدن هويتها يوم فقدت شيدرها)
وفي رأينا أنّ الشيادر والسّفساري والكوافي والفُوَط والمعاوز وغيرها من الرواسب الثقافية؛ مثلها مثل البشر وسائر المخلوقات تتعرض للتهجين والانزياح عن هوياتها الأصلية التي هي مركبة وغير ثابتة ومتغيرة، لذا من العبث أن نتحدث عن هويات أصلية صافية نقية.
فهل حقًّا (أضاعت عدن هويتها يوم فقدت شيدرها)؟!