موارد الحكومة المفقودة... كيف تحولت صرخة "المعبقي" إلى وثيقة إدانة أكدها البرلمان؟
الجمعة 01 أُغسطس ,2025 الساعة: 05:47 مساءً
تقرير - هشام المحيا



في عمق الأزمة التي تعيشها الحكومة الشرعية، حيث تتشابك خيوط السياسة والاقتصاد والحرب، خرج محافظ البنك المركزي اليمني أحمد غالب المعبقي، بتصريح مزلزل ، كشف العورات الاقتصادية بشكل واضح ، لكن هذا التصريح الصريح، نُظر اليه كمشرط جراح، كشف عن أورام الفساد التي تنخر في جسد الدولة المنهك، وبالتالي بداية مرحلة تصحيح حقيقية
 
لم يكن حديث محافظ البنك المركزي اليمني، الأستاذ أحمد غالب المعبقي، مجرد أرقام تُلقى في الهواء، بل كان بمثابة شهادة رسمية من أعلى سلطة نقدية، تفكك شفرة الانهيار المالي الذي يعيشه المواطن اليمني يومياً. 

إعلانه الصادم بأن 147 مؤسسة إيرادية حكومية، من أصل 168، تعمل خارج السجلات المالية الرسمية، وأن ما يصل إلى خزينة الدولة لا يغطي سوى 25% من الالتزامات الأساسية، لم يكن مجرد تشخيص، بل كان صرخة استغاثة وتحذيراً من أن الدولة تُنهب من الداخل. 

هذه الصرخة لم تذهب سدى، بل وجدت صداها وتأكيدها بعد أيام قليلة في أروقة السلطة التشريعية، التي كشفت في بيان ناري، عقب اجتماع لهيئة رئاسة مجلس النواب ورؤساء الكتل البرلمانية، عن حجم العوائق التي تواجه أي محاولة للرقابة. 

تشريح الأزمة
لم يكن حديث المحافظ المعبقي، الذي نقله الصحفي فتحي بن لزرق، مجرد شكوى، بل كان تحليلاً بنيوياً دقيقاً لآلية عمل "الاقتصاد الموازي" الذي ابتلع الدولة. يمكن تفكيك شهادته إلى عدة مستويات من الخطورة.

يرى مراقبون ان الرقم "147" للمؤسسات الإيرادية التي لا تورد الى البنك المركزي ولا تخضع للرقابة، هو مؤشر على أن الفساد لم يعد استثناءً، بل أصبح هو القاعدة. عندما تعمل 88% من المؤسسات الإيرادية خارج سيطرة البنك المركزي، فهذا يعني أن الدولة فقدت أهم أدوات سيادتها: القدرة على جباية مواردها. 

هذه المؤسسات، من موانئ ومطارات ومنافذ برية وضرائب وجمارك، تحولت من روافد للخزينة العامة إلى ما يشبه "إقطاعيات مالية" خاصة بجهات متنفذة، تديرها بعيداً عن أي رقابة أو مساءلة. 

آلية تدوير الأموال المنهوبة
أشار المعبقي بوضوح إلى أن هذه الأموال "يذهب جزء كبير منها إلى محلات صرافة أو يُصرف خارج الأطر دون رقابة". 

هذا التصريح يزيح الستار عن حلقة جهنمية: الأموال العامة التي يجب أن تمول الرواتب والخدمات، تُستخدم بدلاً من ذلك لتغذية السوق السوداء والمضاربة على العملة. 

وهذا يفسر لماذا كلما زادت معاناة المواطنين، ازدهرت شبكات الصرافة غير المنضبطة، ولماذا يظل الريال اليمني في حالة سقوط حر رغم كل محاولات الإنقاذ.
إنها أموال الدولة التي تُستخدم لتدمير اقتصاد الدولة. 
كان المحافظ واضحاً في أن المسؤولية ليست حكراً على البنك المركزي. بل هي مسؤولية مشتركة تتحملها "الجهات التنفيذية والرقابية بالحكومة والدولة". 
كما انتقد "عبث بعض المحافظات بمواردها"، التي تتصرف كدول صغيرة داخل الدولة، تجبي الأموال وتصرفها كما تشاء، ثم في نهاية المطاف، تُحمّل البنك المركزي مسؤولية العجز عن دفع الرواتب وتوفير السيولة. 
هذه الازدواجية في إدارة الموارد تخلق حالة من الشلل، حيث لا توجد سلطة مركزية حقيقية قادرة على فرض الانضباط المالي. 

الرقابة المغيبة 
بعد أيام قليلة من تصريحات المعبقي، جاء بيان هيئة رئاسة مجلس النواب ورؤساء الكتل البرلمانية الصادر في 24 يوليو 2025، ليعطي بعداً عملياً وميدانياً لما تحدث عنه المحافظ. 

لم يعد الأمر مجرد أرقام، بل أصبح واقعاً ملموساً من التهديد والمنع.
 
البيان كشف أن اللجان البرلمانية التي شُكلت بالاتفاق مع مجلس القيادة الرئاسي ورئاسة الوزراء للنزول الميداني وتقصي الحقائق حول هذه الإيرادات المفقودة، وُوجهت بمقاومة شرسة. 
ففي حضرموت، تم منع اللجنة من أداء عملها بالقوة، وأُجبرت على المغادرة تحت التهديد، وسط صمت مريب من السلطة المحلية. 

هذا الحادث لم يكن معزولاً، بل دفع المجلس إلى تعليق عمل لجان أخرى، مما يعني عملياً إيقاف الجهد الرقابي الأهم الذي كان من الممكن أن يؤكد بالأدلة والوثائق ما قاله المحافظ. 

الأخطر من ذلك، هو ما كشفه البيان عن "تقاعس" و"عدم مصداقية" من جانب رئاسة الوزراء في إصدار توجيهات رسمية لتسهيل عمل هذه اللجان، رغم الوعود المتكررة. 
هذا يطرح سؤالاً جوهرياً: إذا كانت السلطة التنفيذية نفسها لا تسهل عمل السلطة الرقابية، فكيف يمكن مكافحة الفساد؟ 
وهنا تتكامل الشهادتان: المعبقي يقول إن الأموال مفقودة، والبرلمان يقول إنه عندما حاول البحث عنها، تم منعه. 

هذا يؤكد أننا لسنا أمام مجرد مخالفات إدارية، بل أمام منظومة متكاملة تدافع عن مصالحها بشراسة، وتمتلك من النفوذ ما يمكنها من تحدي أعلى سلطتين، النقدية والتشريعية، في البلاد.
 
تحركات رسمية 
تصريحات المعبقي ولاحقا بيان مجلس النواب، دفع الرئاسة والحكومة للتحرك، حيث أكد عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي، عن دعم المجلس لإصلاح الاختلالات. 

ولاحقا، ترأس الزبيدي، في العاصمة المؤقتة عدن، الاجتماع الدوري للجنة العليا للموارد السيادية والمحلية، وشدد خلاله على أهمية اتخاذ قرارات جريئة ومبادرات فعالة لمواجهة التحديات المتزايدة في مختلف القطاعات المالية والخدمية. 
مجلس الوزراء من جانبه، عقد اجتماعا، يوم الأربعاء، تطرق فيه الى ما ورد في تصريحات المعبقي حول عدم خضوع 147 مؤسسة ايرادية للرقابة وعدم توريد ايراداتها للبنك المركزي. 

وفي اكد المجلس، ان الحكومة ستخذ اجراءات قانونية وادارية تجاه المؤسسات الإيرادية التي تمتنع عن التوريد إلى البنك المركزي، اشار الى ان غالبية هذه المؤسسات إما غير فاعلة أو مجمدة حساباتها، وسيتم نشر أسماء هذه المؤسسات في إطار الشفافية وتصحيح المعلومات الخاطئة التي تهدف إلى التشكيك في جهود الحكومة. 

تطمينات بشأن الاصلاحات 
وبعث المجلس تطمينات بشأن الاصلاحات الاقتصادية في المستقبل القريب، من خلال الاشارة الى قرار تشكيل اللجنة العليا لإعداد الموازنة العامة للدولة للعام 2026، بعد توقف دام لسنوات في إعداد الموازنة، مع التأكيد على أن هذه الخطوة تمثل محطة مفصلية لإعادة انتظام العمل المالي، وتعزيز الشفافية والانضباط المالي، والمساءلة في إدارة المال العام. 

وشدد رئيس الوزراء على ضرورة مواكبة المرحلة الحالية بروح وطنية، والعمل بروح الفريق الواحد، وتسريع الإنجاز في الملفات الاقتصادية والخدمية، مع تعزيز التنسيق مع السلطات المحلية، والتفاعل الإيجابي مع قضايا المواطنين. 

تضمن اجتماع مجلس الوزراء تقديم تقرير شامل من محافظ البنك المركزي اليمني، يتناول الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية خلال الفترة من يناير حتى يونيو 2025. 
استعرض التقرير أهم المؤشرات المالية والسياسات النقدية المعتمدة، إلى جانب الإصلاحات المؤسسية التي قام بها البنك لتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي. 

وركز التقرير على الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي لتفعيل أدوات السياسة النقدية، ومنها التدخل في سوق الصرف خلال فترات ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، والاستمرار في منع إصدار النقد الجديد، وتعزيز أدوات الدين العام، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على سوق الصرافة، ووقف عشرات شركات ومنشآت الصرافة المخالفة. 

كما أشار التقرير إلى اكتمال نقل المنظومة المصرفية العاملة بشكل كامل إلى العاصمة المؤقتة عدن، وجاري إتمام هيكلة الشبكة الموحدة المصرفية وبدء تشغيلها بوضعها الجديد مع نقل قيادتها للبنوك، الأمر الذي من المتوقع أن يحقق نقلة نوعية في عمليات الرقابة والتزام المؤسسات المصرفية. 

إلى جانب ذلك، أشار محافظ البنك إلى تنفيذ أنظمة المدفوعات الحديثة بدعم من البنك الدولي، والتي ستساهم في رقمنة العمليات المصرفية وتعزيز الشمول المالي، بما يخدم المواطنين ويسهل التعاملات المالية.

التداعيات... من يدفع الثمن؟ 
هذا الوضع المعقد له تداعيات كارثية يدفع ثمنها المواطن اليمني بشكل مباشر، وهو ما تؤكده آراء الخبراء والمراقبين. 
الخبير الاقتصادي، مصطفى نصر، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، علق على هذه الأحداث بالقول: "بغض النظر عن الجدل القائم حول مجلس النواب، فأي جهد رقابي يعد خطوة إيجابية... العبرة دائمًا بالنتائج". 
استغرابه من مرور حادثة منع اللجان "مرور الكرام" يعكس حجم الخلل، فإعاقة الرقابة هي بمثابة ضوء أخضر لاستمرار الفساد. 

بالعودة الى التداعيات، يبرز العجز عن دفع الرواتب كنتيجة مباشرة للفساد، وهي مشكلة مخيفة، تقلق مئات الآلاف من الموظفين وأسرهم، وأي توقف في صرفها يدفع المواطنين إلى ما دون خط الفقر. 
كما يأتي انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في عدن، وتدهور المستشفيات، وشلل المدارس، كنتائج مباشرة لغياب التمويل الذي تبتلعه شبكات الفساد.

هل من إرادة للإنقاذ؟ 
وضع محافظ البنك المركزي، ومن بعده مجلس النواب، اليمن أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها. لم يعد النقاش حول حلول اقتصادية مجدياً دون معالجة هذا السرطان السياسي والمالي. 

كان المعبقي قد اقترح جملة من الحلول، لاسعاف الوضع الاقتصادي ومنها استئناف تصدير النفط، وتوجيه كافة موارد الدولة للبنك، وإقرار ميزانية، وتحرير الدولار الجمركي — تظل مجرد أمنيات ما لم تسبقها إرادة سياسية فولاذية لفرض سيادة الدولة. 

بالتالي، الكرة الآن في ملعب مجلس القيادة الرئاسي. فهل ستكون هذه الشهادات المتتالية هي الشرارة التي توحد الصفوف خلف مشروع وطني لإنقاذ الدولة، يبدأ بمحاسبة من أعاق عمل اللجان البرلمانية، وتمكين البنك المركزي من بسط سيطرته على كافة الموارد، ومحاسبة الفاسدين بغض النظر عن مناصبهم؟ أم أن هذه الصرخات ستضيع في صخب المصالح الضيقة، لتستمر دوامة الانهيار، وتكون هذه التقارير مجرد شهادات مكتوبة؟.


نقلا عن صحيفة 26 سبتمبر.


Create Account



Log In Your Account